الباحة - عمر البدوي
وأنت تشق الطريق إلى الباحة، وقبل أن تعزم الولوج إلى أكبر سلسلة من الأنفاق التي تثقب عزم الجبال، تطل قرية من الحجارة عن يمينك، تحف من حولها أشجار كثيفة، وكأنها تتوسدها في مشهد بديع كاد أن ينمحي من الواقع والذاكرة قبل أن تدركه يد العناية البصيرة بقيمة التراث.
هي قرية «ذي عين» الأثرية، تطؤها قدماك فإذا بك تشم رائحة الطين تفوح وتعبق في المكان، وكأنها تذكرك بأصل الأشياء، ونهرها الجاري من مصبه المجهول ما زال ينسكب رقراقاً إلى تلك المساحات الواسعة من مزارع الموز والنباتات العطرية أسفل القرية، بينما يقبع مسجدها على حافة متوسطة في القرية، وكأنه نقطة التجمع الضامّة لكل أهالي ذي عين وزوارها. قرية ذي عين هي قرية أثرية تقع في تهامة زهران وتبعد 20 كيلومتراً تقريباً عن محافظة المخواة، و24 كيلو متراً عن الباحة، ونشأت في القرن العاشر الهجري، وعمرها يزيد على 400 عام.
مناخ القرية حارٌ صيفاً ومعتدلٌ شتاءً لكونها جزءاً من منطقة تهامة، وترتفع عن سطح البحر بنحو 1985 متراً تقريباً، والأمطار فيها غزيرة في الصيف ومتوسطة في الشتاء. عند زيارتنا لها كانت الإصلاحات والترميمات التي تشرف عليها «السياحة السعودية» جارية، وعلى الجانب الأيمن من أسفل القرية يمتد العشب الصناعي وبعض الجلسات العائلية وملاهي الأطفال وأكشاك البيع التجارية في محاولة لاستثمار الوجود المتزايد لزائري القرية. وتندرج القرية ضمن عشرة مواقع وافقت عليها الحكومة السعودية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 لتطلب من «يونسكو» ضمها إلى قائمة التراث العالمي في الأعوام المقبلة. وخصصت هيئة السياحة السعودية 16 مليون ريال من أجل مشروع تأهيل القرية، الهادف إلى ترميم وتطوير القرية وتحويلها إلى مزار سياحي، وقسم المشروع إلى ثلاث مراحل امتد على مدى خمسة أعوام، ابتداء من 2009.
من جهة انبجاس الماء، وإليه تعود تسمية القرية، يمكن أن تأخذ رحلة بقدميك، تطالع فيها قدرة الإنسان على توظيف المكان وتأمين عيش رغد له ولأبنائه، وعلى رغم أن أهل القرية تركوا السكن فيها، إذ شدّت 50 عائلة من القرية الرحال صوب القرية الحديثة، وكان آخر الراحلين منها امرأة قبل 30 عاماً، إلا أنها بقيت شاهدة على إنسان ذلك الزمان والمكان وهو يواجه ظروف الطبيعة، ويبدع في إيجاد بيئة حاوية تضمن له أفضل عروض الحياة المستقرة الهانئة. توجد أسطورة محلية مفادها أن رجلاً فقد عصاه في أحد الأودية، وتتبعها ليسترجعها، حتى وصل إلى القرية، فجمع أهلها واستخرج العصا بعد حفر العين. بُنيت القرية على قمة جبل أبيض وتشتهر بزراعة الموز والليمون والفلفل والريحان والكادي، والصناعات اليدوية.
وتضم القرية العديد من البيوت، المكونة من طابقين إلى أربعة طوابق ومسجداً صغيراً والعديد من الحصون المستخدمة للدفاع عن القرية والمراقبة. وتتكوّن بيوتها من طابقين إلى سبعة طوابق، واستخدم الأهالي في البناء الحجارة التي نُقلت بواسطة الجمال أو على ظهور الرجال من السفوح المجاورة. أما السقف فمن أشجار العرعر التي نقلت إليها من الغابات القريبة، وزينت الشرفات بأحجار المرو على شكل مثلثات متراصة، وهناك بعض الحصون التي كانت تستخدم للدفاع عنها ولحمايتها من الغارات أو لأغراض المراقبة.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق