يظهر إلى السطح إثر كل خطوة إصلاحية في القطاع الإداري أو التعليمي جدال شرعي وثقافي يعلوه شعار «التغريب» والمخاطر التي يجرها إلى البلاد. التغريب بمعنى كل الخطوات التي يقصد منها منازعة البلاد وأهلها في هويتهم الدينية والاجتماعية التي يطلق عليها أحياناً «الخصوصية المحافظة». والمجتمع السعودي ليس في منأى عن تشبع بعض أفراده بالثقافة الغربية والدعاية لها، إذ إن التلاقح الحضاري مع الغرب ذو مواقع متعددة، سواء رأينا حضوره في جيل البعثات العلمية القديم والحديث، أو من خلال التأثر القرائي عن بعد، أو الانغماس الفني الهوليوودي، أو الانبهار العام الذي يولد التقليد والمحاكاة عطفاً على نظرية ابن خلدون في «تقليد المغلوب للغالب».
وكذلك فإن خصوصية المجتمع السعودي الفريدة بحمولتها الدينية وأصالتها القومية وموقعها الجغرافي وسيولتها المالية، ولكونه – أي المجتمع السعودي – قد كان أيضاً عصياً على التغريب طوال العقود الفائتة، ولأنه أخيراً بدأ بانفتاح ثقافي واجتماعي وتقني واسع في السنوات الأخيرة زامن حال التوتر التي شابت العلاقة مع الغرب بعد أحداث أيلول (سبتمبر)، فإن هذا بمجموعه يهيئ لظهور حال تغريبية طارئة، وهو الأمر الذي قد حصل فعلاً كما يرى البعض، ويستشهدون بالكثير من الحالات الكتابية المختلفة سواء في المقالات الصحافية أم الروايات الأدبية أم الأطروحات الفكرية المرئية، والتي في حدتها تراوحت ما بين يمين متطرف يرى الذوبان التام في الثقافة الغربية المنتصرة سلوكاً وفكراً ونمط حياة، وتيار آخر هو أقل حدة أو أكثر غموضاً في هذه الناحية.
«الحياة» تحاول أن تستوضح حقيقة هذا الخطر أو وهمه، بالحديث إلى ناشطين يمثلون طرفي المعادلة في المجال الثقافي والاجتماعي.
ويعتقد الكاتب شتيوي الغيثي أن فكرة التغريب، «تنتج بوصفها صورة عدائية للمجتمع من مروجيها»، الأمر الذي يؤدي إلى «خلق صورة وهمية عن زيارات متبادلة بين السفارات الغربية وبعض المثقفين (التغريبيين) من دون أن نفهم من هم هؤلاء، وكأننا أمام عملية تخوينية أو جاسوسية مضمرة في الخطاب التخويني، وتنزل أحياناً لتصور المجتمع وكأنه أمام عملية تغريبية عامة. هكذا يصور البعض فكرة التغريب على رغم أن أكثر دعاة إحقاق المرأة في السعودية لا علاقة لهم بهذه المسائل، بل هي حقوق عامة كثيراً ما يربطها دعاتها بالإسلام أكثر من الغرب فضلاً عن بعض الأدوات الحقوقية التي يستفيد منها الإسلامي وغير الإسلامي على حد سواء، إذ ترتبط بفكرة حقوق الإنسان وهي حقوق غالباً ما كانت تنتمي إلى مفعولاتها الغربية، هذا غير البعثات العلمية للطلاب السعوديين التي أقلقت مضجع الخطاب الديني في السعودية بوصفه فكرة واضحة عن تغريب الشباب تمهيداً إلى تغريب المجتمع بشكل أكثر».
وقال الغيثي إن فكرة التحديث «فكرة قد تتسق مع فكرة التغريب وقد تتصادم معها ولا يعني ذلك أبداً أنها تسير في سياق تغريب المجتمع. مشروع الابتعاث مثلاً يهتم بتطوير التعليم بعد أن ثبت فشل مخرجات التعليم الداخلي، فكان لا بد من الاستعانة بفكرة الابتعاث نفسه كنوع من التطوير الاضطراري لأي مجتمع يريد النهوض، فالعلاقة بالآخر من أهم مقومات التقدم»، مشيراً إلى أن التغريب «فكرة هلامية أكثر منها حقيقة واقعية، وحتى لو كانت حقيقة فإنها في حدود ضيقة جداً لا يمكن تعميمها على كل مشاريع التحديث».
أما الأستاذ المشارك بكلية الملك خالد الدكتور سعد بن عبدالعزيز الدريهم، فيرى أن التغريب ناله ما نال نظرية المؤامرة، «فثمة من يجعل التغريب ماثلاً في كل شيء ويفسر كثيراً من القضايا في ضوء قضية التغريب، وثمة من يتجاهل هذا الأمر». ويرى أن الغرب ومنظوماته السياسية والثقافية «لا أثر لها في الحراك المشرقي، أو بعبارة أصح في بلاد المسلمين، وكلا الرأيين جانبه الصواب وأُتي من ناحية المبالغة، ولعل النظرة العادلة للأمر أن التغريب له وجوده والغرب يدعمه بمؤسساته كافة، ولكن ليس بهذه الضخامة التي نتصورها، أو نجعل منها بعبعاً يخاف منه ويُخشى، وليس له تلك النجاحات التي يمكن أن نبني عليها تلك المبالغة المهولة، والتي ربما جعلت حجة لاجتثاث كل عمل ربما يكون نافعاً بحجة أن فيه نفساً غربياً؛ لذا النظرة المتوسطة غائبة والمجتمع المثقف يدور بين قطبي النفي والإثبات بغلو».
ويشير الدريهم لـ«الحياة» إلى أن سبب التوجس من الغرب وما يأتي من الغرب، «غالباً ما يكون مبنياً على أوهام. والجهل يعزز من ذلك، وإلا لو كنا واقعيين لهونا من الأمر وحكمنا على كل أمر لوحده من دون تعميم الأحكام، فالغرب يأتي منه الشر والخير، والخير ولا ريب أنه أكبر مساحة، كما أننا بذلك التخويف مما يأتي بالغرب كأننا نفترض مجتمعنا مجتمعاً ساذجاً يتأثر بكل شيء، وهذا غير صحيح، فالمجتمع يميز بين ما يصلح له وما لا يصلح له، لكنها الوصاية المقيتة فلا يريد بعض الناس للمجتمع أن يتنفس إلا من خلال رئته، ولو كانت مهترئة، وهذا لن يكون في هذه الأزمان زمن التواصل».
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق