يواجه تنظيم القاعدة أزمة انحسار شديدة في السعودية، بعد تنامي الوعي بخطره وتهديده السلم الأهلي، ودوره في تشويه صورة الإسلام عالمياً. وبالتزامن مع النجاح الأمني الذي حققته السعودية في مواجهة خلايا «القاعدة»، أخذ التنظيم في التراجع، حتى بات شيئاً من الماضي. وبعد أن كان قبل نحو عقد «مالئ الدنيا وشاغل الناس»، لا يكاد اسمه يمر على مسامع السعوديين اليوم إلا من خلال محاكمات أفراد خلاياه.
وأظهر فيلم وثائقي بثته قناة «العربية» أخيراً، حول نجاح السعودية في مواجهة «القاعدة»، واعتمدت فيه على التسجيلات التي التقطها المتطرفون بأنفسهم، خلال لحظات الإعداد للعمليات أو التدريب، أن غالبية أعضاء الخلايا كانوا صغاراً في السن، وجوه طرية لم ينبت فيها الشعر بعد، تجلس قبالة ثلة من المنظرين أو المدربين، وهم يتلون عليهم تعاليم الجماعة المتشددة، أو يلقنونهم تكتيكات القتال والمواجهة. ولما استعاد العنف بعضاً من حضوره في مناطق الصراع، ولدت «داعش» في خضم ظروف سياسية واجتماعية معقدة، وبدأ يقتفي أجندة «القاعدة» القديمة في استهداف دول عربية وأوروبية، يضعها في قائمة أعدائه. وكانت السعودية على موعد مع مواجهة جديدة مع هذا التنظيم الموغل في الوحشية. ولكن «داعش» محاصر بالوعي الشعبي الرافض لأيدلوجيته الحادة، فبدأ التنقيب عن المراهقين مستغلاً ضعفهم النفسي والفكري والتأثير عليهم، وتجنيدهم لتنفيذ عملياته. وتكرر الحال، فأعمار غالبية منفذي عمليات «داعش» من الانتحاريين ومباشري الاعتداء على رجال الأمن، لا تتجاوز 25 عاماً، وواجه بعضهم إبان مراهقته ظروفاً غير طبيعية، وعاش بنمط شخصي متقلب ومزاج زاخر بالتحولات غير المنتظمة، يفسر هذا جزءاً من الأرضية الشخصية التي تستجيب لتأثير «داعش» وتتبنى عملياته إلى الدرجة التي تجعله ينقاد لها فاقداً أية قدرة على الممانعة.
قمع المنزل يوجد الانتحاري
< أوضح الاختصاصي النفسي المستشار الأسري محمد عازب أن الطبيعة البشرية تميل إلى حب التميز والانفراد بسلوكيات، هي غالباً محط نظر المحيطين عن بقية أقران الإنسان البسيط أمرٌ فطري. وقال لـ«الحياة»: «تعتبر النشأة البيئية والأسرية وكذلك الاجتماعية أحد أهم مكونات الشخصية نفسياً وسلوكياً، وتتطور أفكار الإنسان بالتغير البيئي أحياناً، والسلوكي أحياناً أخرى».
وأضاف عازب: «حين تمعن النظر في التركيبة النفسية لذوي الفكر المتطرف تجد أن هناك خبرات سابقة في التفكير، سواء أكان هذا السلوك الناتج من فكرة ولدت في بيئة مضطربة نفسياً، أم من خلال أثر تربية عنيفة من الراعي ومن معه تجاه هذا الابن بالكبت والقهر وسلب حقوق هذا الشاب، وحجب أقل ما يحتاج إليه من حياة حوارية كريمة، ومنعه من التعبير عن كل ما يضايقه في حياته الأسرية أو حتى الدراسية أو الاجتماعية».
وأشار الأخصائي النفسي إلى أن تلك المشاعر تتحول إلى أفكار عدوانية تجرها إلى حب الانتقام وتنفيس تلك الانفعالات الحبيسة أدراج العقول والصدور إلى اتجاهات مختلفة، وخصوصاً في ظل سهولة الوصول إلى شتى بقاع الأرض بضغطة زر فتجدهم يقعون ضحايا لمستغلي حماسة الشباب الذين لم يعودوا يأمنوا من حرمهم ثقافة التواصل الودي الآمن من المحيطين بهم أسرياً، فيبنون لهم جسراً من فساد فكري وعدواني عماده الكذب والغش والاستغلال الآدمي، إلى جحيم العدوانية والتخريب تحت ستار الدين، أو تحت غطاء توفير ما يحتاجون إليه من وهم المال أو الزواج حتى بالعزف على لحن «الحور العين» والضحية هم ودينهم ومجتمعهم ومن هيأ لهم هذا النمط من أنماط الشخصية المضطربة التي تعرف بالشخصية «السيكوباتية»، متناسين متجاهلين عمداً سبب وصولهم إلى هذا المستوى من الضياع. بدوره، حاول الباحث عادل الهذلول أن يجمع حزمة أسباب تفسر الظاهرة، منها «غياب الفهم الشمولي للإسلام، وعدم طرحه في المناهج الدراسية بشكلٍ واضحٍ وسهل، فالتركيز على جزئيات الشريعة وإغراق عقول الناشئة بها، مع تجاهل الكليات والفهم الشمولي للشريعة من شأنه توليد جيل يفتقد بوصلته الشرعية ويسهل السيطرة عليه بعموميات نصوص مجتزأة من سياقها».
ولفت الهذلول إلى تجاهل علم المقاصد الشرعية، الذي يبحث في مقاصد وغايات الأحكام في الشريعة قد يؤدي إلى الفهم اللفظي للنص الشرعي، وهو ما قد يتسبب في إسقاطات تاريخية لنصوص مختلفة تؤدي إلى سفك الدماء والظلم والبغي على الناس، مشيراً إلى تشديد الحصار المجتمعي على الآراء المتعددة في الشريعة ونشر الرؤية الأحادية والفكر الإقصائي، حتى ولو كان هدف هذا الحصار لنشر الرأي المعتدل، وتزداد خطورة هذا الموضوع، إذا كانت أعلى المؤسسات الدينية الرسمية هي من ترعى هذا الحصار على الرأي المخالف وتكرر تبديعه وتفسيقه، فلا نلوم الشاب الذي يخرج عن ربقتها منحرفاً بأفكار عنيفة متطرفة.
ومن الأسباب التي يراها الهذلول أيضاً «تضييق دائرة الحلال وتوسيع دائرة الحرام بلا دليل يؤيده، لأن بيئة المتطرفين سفّاكي الدماء هي في تحريم ما أحل الله ومن ثم التكفير والأخذ بلوازمه التي لم يلزمنا بها الله عز وجل وأعني القتل وإراقة الدماء».
«الدواعش» أصغر من «القاعديين» عمراً
< عزا أستاذ اجتماعيات العلوم والمعرفة في جامعة الملك سعود الدكتور عبدالسلام الوايل ميل بعض المراهقين إلى خطاب «داعش»، إلى أن الأفراد في بواكير شبابهم يكونون أكثر تعلقاً في الأفكار «الطوباوية» المثالية غير الواقعية، وأشد ميلاً لها ممن يكبرونهم، لافتاً إلى أن هذا ملاحظ على إتباع مختلف الخطابات «الطوباية»، التي تعني مكاناً متخيلاً لا وجود له على أرض الواقع.
وأشار الوايل إلى أن الدافع وراء هذا «خليط من البحث عن هوية ذاتية صارخة ومدوية من جهة وتوق بريء لتحقيق القيم الكبرى، مثل العدالة والنصر، بحسب ما تعلّموه وآمنوه به من أنساق قيمية واعتقادية».
وقال لـ«الحياة»: «إن معدل أعمار من التحقوا بـ«داعش»، أقل من نظرائهم ممن التحقوا بـ«القاعدة». وبعض التقديرات تذهب إلى فارق أربع سنوات في المتوسط بين أعمار الملتحقين بالتنظيمين»، لافتاً إلى أن هذا «ملمح مهم بين بأن الإرهاب «الداعشي» غير «القاعدي»، ويختلف عنه، وله خصائص مختلفة، ما يعني الحاجة إلى مقاربات مختلفة أيضاً». واستكمل الأكاديمي الوايل حديثه بالقول: «لا تختلف الظاهرة «الداعشية» عن «القاعدية» في الخطاب، فلهما خطاب واحد، يطلق عليه «السلفية الجهادية». لكنهما يختلفان في طبيعة آليات صنع الأتباع، وحقائق تخلّقهما على الأرض واقعاً وتنظيماً، لافتاً إلى أن في جوهر الاختلاف يكمن «العصر الرقمي».
وأضاف: «داعش» نتاج أكثر إتماماً ونضجاً للعصر الرقمي من «القاعدة». ومن خصائص العصر الرقمي دخول وسائل التواصل فاعلاً قوياً في تكوين المعتقدات والاتجاهات، وبالتالي السلوكيات»، موضحاً أن «داعش» فاعل جبّار في هذه الخصيصة الخطرة، لأنها تنفرد بالشباب في الغرف المغلقة. وقد لا تكون هي «الصانع» للمعتقدات والاتجاهات.
ولكنها تقدم لهم إمكان تفعيل «رؤية العالم» عبر «أكشن» محدد، وعبر فعل متحقق في الواقع. ولفت الأكاديمي السعودي إلى أن مقولات «العزّة» والمجد التاريخيين محققان في عالم «داعش»، فهناك الخليفة، والولاة، ودواوين الجند، والخراج، وعالمان لا ثالث لهما: عالم الكفر والردة، وعالم الإسلام والإيمان. وأشار إلى أن «داعش» يجذب الصغار، أكثر ما فعل «القاعدة» بسبب ثالوث «رؤية العالم»، أي المنظور الجهادي المودع في الأرواح والمهج، وإمكانات العصر الرقمي، وواقع الصراع الطائفي العنيف في المنطقة».
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق