التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الشارع بوصفه مزيّة ريفية






في مجتمع الأرياف كان الخروج إلى الشارع بالنسبة للذكور الخطوة الأولى باتجاه الرجولة، وعلى خلافه بالنسبة للإناث، فالدخول إلى البيوت والاحتباس علامة على دخول الفتاة سن البلوغ على وعد مع القسمة والنصيب أن تزفها إلى فارس أحلامها أو فجيعة منامها، وكثيراً ما كان يؤنب من يهجع طويلاً في بيته من الذكور بالقول إن "البيت للحريم".

كان يتحفز الفتى ليقال له أصبحت رجلاً بمقدورك أن تخرج إلى الشارع بمفردك، وحجم الوقت الذي يقضيه الصبي في الشارع يختلف على أساس عمره، فكلما كان العمر أكبر فإنك تقضي وقتاً أطول والعكس بالنسبة لمن يصغر عمره فحظه من الشارع أقل.

الشارع حاجة تربوية وإنسانية لمراهق الأرياف، فهو يكفل له مساحة واسعة من الحرية تمكّنه من التصرف على هوى قناعاته والعيش على النمط الذي يروق له ويطمئن إليه، فضلاً عن حجم التحديات والالتحامات الطبيعية التي تكشف له حجم العالم غير المنضبط الذي يمور ويتحرك خارج حدود البيت
الشارع تحدٍّ حقيقي لانسجام الشاب مع مبادئه والصورة المثالية التي انطبعت في حافظته الأخلاقية من البيت والمدرسة، تساعد في إعادة تموضع الصورة الذهنية لمبادئه في إطارها الواقعي وفضائها الحقيقي والمعاشي، سوى ذلك فالشارع للريفي فرصة التسلية والترويح عن النفس الوحيدة.

أيام الصبا قضيناها في شوارعنا حفاة، نقطع مسافات وحارات مشياً على الأقدام، ومقدار المسافة التي نقطعها بعيداً عن البيت يحددها فارق السن كذلك، ولذا اعتبر الصعود إلى المثلث -المنطقة التجارية المحاذية للطريق الدولي الملاصق لقريتنا- سفراً طويلاً ودلالة جليّة على كوننا أصبحنا رجالاً، ولذا قد يضطر الصغير منا أن يذهب إلى المثلث خلسة دون علم أهله، وإلا ناله من التشنيع والضرب ما لا يقواه جسده ولا يستطيعه قلبه.

والطريق السري إلى المثلث دون أن تقع عين أحد من الأهل علينا يخترق عدداً من البُلد -يطلق على مناطق الزراعة ومفردها بلاد- ولعل أحداً اقتنصنا من ركن قصيّ وأسرع بالوشاية إلى طرف من عائلتنا لتقوم الدنيا ولا تكاد تقعد، فنميل إلى السلم ونتوقف عن زيارات المثلث السرية ونستأنفها لاحقاً عندما تهدأ الأمور.

والشارع ليس نمطاً واحداً، ففيه الحسن والسيئ، وربما الشاذ بطرفيه أحياناً، ولذا تبني مجموعات الأقران أفرادها وتستقبل الجديد من أعضائها على أساس الاهتمامات المشتركة ونمط القناعات المتوافق عليها، وثمة من يظل طيلة مراهقته مذبذباً لا يدري أكان خيره يغلب أم شرّه، وفي كلا الطرفين تجد من يقضي من الجماعة وطره ويأخذ بنصيبه ثم يغادرها إلى غيرها.

في أيام الصبا يجتمع أبناء الجيران الملاصقة بيوتهم، ولا تكاد تجد جماعة تخلو من فتاة تثير المشاكل وتستفز شقاوات الذكور، ثم ترقى العلاقات إلى الحارات المجاورة بتأثير الدراسة ومجتمع المدرسة المفتوح، وتنضج العلاقات عندما ينغمس الشاب في مراهقته وتتضح ملامح قرنائه جيداً وحجم الاهتمامات المتبادلة، والأهل عادة لا يتدخلون في صرف أنظار الأصدقاء عن بعضهم إلا في حال نشوب مشكلة صريحة أو خلاف بيّن، وسوى ذلك لا يرتقي تأثير البيت إلا في النصيحة العابرة والرقابة عن بعد.
الحقيقة كان الشارع تجربة مثيرة وثرية، كان شيئاً ممتعاً أن تمارس شيئاً من العبث اللذيذ خارج البيت وكأنك تسرح في قطعة من الحرية تجد فيها نفسك وترسم فيها حدود ما تنتهي إليه طاقتك النفسية والذهنية، وكثيراً ما أحرّض الآباء الجدد على منح فرصة السياحة الشوارعية لأبنائهم بعد أن انحسرت بفعل التمدد المديني غير المتسق مع ظروف الأرياف.

كان المراهق الذي يتأخر خروجه إلى الشارع مثاراً للشفقة والسخرية معاً، كان يبدي مستوى من العتة والفهاهة في لسانه وطريقة تعامله، كان لا يحسن التصرف ولا يجيد التعاطي بشكل طبيعي مع الظروف والمواقف، وربما مارس ما لا ينبغي مع سنه نتيجة حرمانه وقتئذ.

كانت البيوت ذات المراس الشديد والضبط الغليظ تعرض أبناءها للازدواجية عند خروجهم إلى الشارع، كانوا يعبرون عن رغباتهم ويمارسون مغامراتهم بارتياح منقبض، ثم يخلعون أقنعتهم ونعليهم عند عتبة المنزل استجابة لاشتراطات أسرية صارمة وبعيدة تماماً عن الواقع، كانت الهوة السحيقة بين الجانبين تثير حفيظتهم وقلقهم.

الشارع لا يعتبر صفة مدح دائماً للشاب، فمصطلح "ولد شوارع" مثلاً يعني في حدّه الأدنى تمظهر أسوأ ما يعج به الشارع من السلوكيات والصفات في فرد ما كان قد ترك للشارع أن يربيه ويهتم به، خاصة إذا كان مهملاً من جهة والديه أو عاش ظروفاً أسرية كالحة وقاهرة.



الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم،...