عندما تنوي الذهاب إلى حضور مناسبة ثقافية في الكلية الجامعية لمحافظة القنفذة، ستكون حتماً في قاعة الاحتفالات بالكلية التي تحمل اسم «الشيخ حسن الفقيه رحمه الله»، الأمر نفسه لو اخترت حضور اجتماع تعليمي في قاعة الاجتماعات بإدارة تعليم القنفذة، ستجدها هي الأخرى تحمل اسم «الشيخ حسن الفقيه رحمه الله». يبدو وكأن في الأمر سراً، بالتأكيد ليس هو من قبيل المجاملة المتواطئة أو «الواسطة»، وليس لأن القنفذة لا تملك أحداً يضاهي الفقيه في الأحقية، ولكنه تخليد لسيرة أدبية زاخرة وجهوده مبذولة بتضحية وتفان قام بها الشيخ حسن لخدمة الثقافة والتاريخ في المحافظة. يعتبر الفقيد الشيخ حسن بن إبراهيم الفقيه رائد التعليم في محافظة القنفذة - جنوب مكة المكرمة - حيث تزيد خدمته على ٤٤ عاماً، وأسس معظم مدارس المحافظة، إذ فوضته وزارة التربية والتعليم (المعارف سابقاً) باختيار مواقع المدارس وفتحها إبان فترة تأسيس التعليم النظامي.
بدأ الفقيه حياته معلماً ثم مفتشاً إدارياً، ثم كلف بإدارة التعليم فعميد لكلية المعلمين منذ تأسيسها ولمدة ١٣ عاماً، وكلف بالعمل عضواً في مجالس متعددة ولجان في إمارة منطقة مكة المكرمة ومحافظة القنفذة. ويطلق على الفقيه في الأوساط البحثية والعلمية لقب علامة جنوب غربي السعودية، ويحظى بمكانة كبيرة في الأوساط البحثية محلياً وعربياً، ويعد مرجعاً لكثير من الباحثين في الجامعات والمؤسسات العلمية، وقدم الكثير من المحاضرات واللقاءات في مجال التاريخ والتعليم والتوثيق والإدارة. وللراحل سلسلة أبحاث منشورة في دوريات متعددة محلية وعربية، كذلك سلسلة كتب من مؤلفاته بعنوان من «آثار تهامة، ومخلاف عشم، ومدينة السرين الأثرية»، وهو حاصل على البكالوريوس والماجستير من جامعة الملك سعود.
ولد في قرية المنقرة عام 1358 ، وأمضى سنواته الأولى بين تلافيف قريته المنقرة غضاً يضع جسده مرة تحت الشمس وأخرى مع عقله منتقلاً إلى قرية الدجرية في كُتاب عمه الشيخ عبدالله بن محمد بن قناعي الفقيه. في عام 1366هـ حزم الطفل اليافع مع أمه أحلامه وغادر قريته الوادعة إلى حاضرة واديي قنونا ويبه، متوجهين إلى مدينة القنفذة حيث التعليم والحياة الجديدة.. سكنت أمه السيدة منية بنت موسى صدام الفقيه رحمها الله - بين أقاربها من الفقهاء آل البدوي، يجاورها أهل القنفذة المغاربة، الذين نسج معهم الفقيه الصغير أولى فصول حكايته.. وما هي إلا أيام قليلة ما لبث حتى يمم وجهه إلى المدرسة السعودية التي رأت فيه متجاوزاً لأقارنه فكان الصف الثاني الابتدائي مكانه المناسب لإجادته القراءة والكتابة.. ومضى الفقيه في رحلة التعليم النظامي الأولى حتى بلغ الصف الخامس الذي بقي عاماً ينتظر أن يأتي معلم لمادة الرياضيات... مدرسة أخرى كان الفقيه يتعلم فيها العلوم المتنوعة وفنون الحياة بين رجالات سكنوا المدينة الوادعة في بدايات تأسيس الدولة السعودية.
حرصت والدة الشيخ حسن الفقيه أن يجالس أهل العلم فكان قاض القنفذة الشيخ حامد عطي قبلته الأولى، إذ كان يقابل خدمته له بتعليمه العلوم الشرعية بأنواعها، بينما كان الفريق عبدالله المعلمي الملازم حين ذاك يعلمه ما يدور حول العالم، وما تحويه المجلات والجرائد التي كانت تحط في منزله من عواصم عربية وقليلاً من اللغة الإنكليزية... الذكاء المتقد والخط الجميل في الكتابة للفقيه جعل أمير القنفذة الشيخ إبراهيم آل ابراهيم يستقطبه ليكون من كتابه ومرافقيه.. فكان معلماً وموجهاً للطفل اليافع والمراهق المقبل على حياة جديدة.
شق الشاب اليتيم حياته العملية بعد تعيينه معلماً عام 1375هـ عائداً إلى دار علمه الأولى... قرية الدجرية معلماً وتنقل بين مدارس: منجية الابتداية في وادي حلي، ثم مدرسته السعودية الأولى في القنفذة، فمديراً، ومنها إلى متوسطة القنفذة مديراً، وانطلق بعد ذلك ليشق المرحلة الأهم في حياته وتاريخ محافظة القنفذة مفتشاً إدارياً، إذ أوكلت إليه مهمة فتح المدارس.. فانطلق في رحلة طوى عبرها السواحل، البوادي، السهول وسفوح الجبال ملاحقاً شغفه بأن يكون التعليم في كل بقعة، وغدت المدارس حقيقة واقعة في أصقاع جنوب غربي المملكة، من حدود مكة فتهامة والباحة ومحايل عسير وحتى حدود جازان.. هذه الحقبة شهدت محطتين مهمة في حياته، إذ أكمل تعليمه ليحصل على درجتي البكالوريوس والماجستير من جامعة الملك سعود، ويمارس نشاطاً إعلامياً بالكتابة في صحف ومجلات، أبرزها مجلة «الرائد»، وكان يشارك في تحرير صفحاتها عن القنفذة ثم مشاركات متنوعة في صحيفة «المدينة».
عقب 31 عاماً من تجارب متنوعة توجت وزارة التعليم - المعارف في ذلك الحين رحلة الفقيه بتعيينه عميداً مؤسساً لكلية إعداد المعلمين لتشهد محافظة القنفذة نقلة جديدة.. تحول الفقيه من مجرد تربوي مسكون بنشر العلم والثقافة إلى قبلة للاستزادة من علمه، إذ أصبح واحداً من أكثر علماء جنوب غربي المملكة دراية بفنون كثيرة، كان أبرزها اللغة العربية والتاريخ والآثار والأنساب.. ممتلكاً واحدة من أكثر المكتبات الشخصية ثراء بالمراجع، المخطوطات وأمهات الكتب.
تقاعد الفقيه عام 1429هـ وشهدت السنوات الأخيرة في خدمته صدور كتابيه في سلسلة آثار تهامة «مخلاف عشم ومدينة السرين الآثرية».. ولم يمهله المرض كثيراً، إذ أوقف مشروع اكتمال السلسلة التي كانت ستصدر منقحة ومزيدة بكتابين اثنين.. وبقي طريح الفراش حتى اختاره الله سبحانه وتعالى مودعاً أهله ومحبيه والقنفذة التي عشقها وأهلها فحبته وبايعه أهلها المحبة.. رحلة في وداع مهيب، حيث تمنى إذ صلي عليه في الحرم المكي الشريف ووري مقبرة العدل.
قبل رحيله بقليل.. كرم المدير العام للأندية الأدبية بوزارة الثقافة والإعلام المؤرخ الفقيه في حفلة أقامتها اللجنة الثقافية الأدبية بالقنفذة، وبحضور مدير النادي الأدبي بجدة، أثناء ندوة بعنوان «قراءة في نتاج الأستاذ حسن إبراهيم الفقيه» ألقاها الدكتور علي حسين صميلي من جامعة جازان، والدكتور يوسف حسن العارف عضو نادي جدة ألأدبي.
وتحدث الدكتور العارف عن مطالعات في ما أنجزه الشيخ حسن الفقيه، واجتهاده في مجال الآثار وتخصصه في الكتابات الشاهدية، ووجد في محافظة القنفذة الكثير من الشواهد واستطاع أن يوصلها إلى القارئ فيما بعد من خلال مؤلفاته مخلاف عشم، والسرين. ثم تحدث الدكتور صميلي، مؤكدا سعة اطلاع الشيخ الفقيه على كتابات الرحالة نقداً وتحليلاً ودراسة. وشهدت المناسبة العديد من المداخلات نثراً وشعراً، ولعل مداخلة حسن الفقيه كانت الأكثر وقعاً على نفوس الحاضرين بسرده قصصاً عن سوق حباشة الذي باع فيه النبي صلى الله عليه وسلم واشترى به، ويقع على جنبات وادي قنونا في محافظة القنفذة، ثم أعلن إطلاق اسم حسن الفقيه على قاعة الاحتفالات في الكلية الجامعية في القنفذة. وبعد وفاته بقليل بادرت إدارة التعليم بمحافظة القنفذة في تسمية قاعة الاجتماعات بالإدارة باسم العلامة الفقيه، كجزء من الوفاء والتكريم لهذه الشخصية.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق