أصبح دوي المدافع، وهي تنطلق من داخل السعودية، باتجاه أماكن يتمركز فيها «الحوثيون»، مألوفاً بالنسبة إلى معلم اللغة العربية أحمد، وبقية زملائه في مدرسة قرية ضموة، وهي من المدارس الواقعة في مناطق نائية جداً، وعلى سفوح الجبال الشاهقة في منطقة عسير.
يقضي أحمد سنته الثالثة معلماً في سراة عَبيدة بتهامة قحطان، يسافر أسبوعياً من مسقط رأسه في ساحل تهامة، إلى مقر عمله، قاطعاً نحو 600 كيلومتر، مسكوناً بهواجس الغربة والوحشة التي يجدها في مكان عمله، ولكنه يقاوم الأفكار التي تدهمه باستشعار قيمة ما يقوم به.
يعمل أحمد في مدرسة مستأجرة (مبنى من دور واحد)، افتتحت قبل نحو 20 سنة بمركز الفرشة، عدد طلابها لا يتجاوز 15 طالباً، مقسمين على مجموعة من الفصول الصغيرة، إذ يدرس في الصفين الأول والثاني بضعة طلاب، والثالث طالب واحد، بينما لا يوجد أي طالب في الصفين الرابع والخامس، وطالبان اثنان فقط في السادس.
وبدأت وزارة التعليم أخيراً، ببناء مبنى حكومي بجوار المبنى الحالي. ويحصل المعلم على «بدل منطقة جبلية»، وهو ما يعادل 50 في المئة من راتبه، لمن يقبل العمل في هذه المنطقة. وافتتحت الوزارة مدرسة للبنات في قرية اسمها «المتيه»، تخدم كل بنات القرى المجاورة، وتصرف مكافآت للطالبات، ويوفر لهن النقل الحكومي. ولكن أهالي القرى الأخرى رفضوا إلحاق بناتهم بهذه المدرسة، وطالبوا بمدارس خاصة بهم في قراهم، فيما يعبر عن حال «التنافس القبلي»، ورفض العائلات احياناً ان تقطع بناتها مسافات طويلة.
ويسكن المعلمون غالباً في مركز الفرشة، والذي يبعد عن المدرسة نحو ساعة. ويقول أحمد: «قبل أربع سنوات كان السكن في المدرسة إلزامياً؛ لأنه لا يوجد طريق صالح للتنقل من الفرشة إلى ضموة آنذاك. وهناك مدارس مجاورة ما زال معلموها ينامون في المدرسة إلى الآن؛ لصعوبة التنقل، ووعورة الطرق، وعند نزول المطر تعلّق الدراسة مباشرة».
وينتقل الطلاب إلى المدرسة من طريق شخص تتعاقد معه إدارة التعليم. بينما يتنقل المعلمون من المدرسة لمحل سكنهم والعكس عبر وسيط، يدفع له كل معلم 500 ريال شهرياً.
يشعر أحمد وزملاؤه بتقدير كبير من أهالي القرية، ويقول: «الساكنون في هذه المنطقة يرون في أستاذ المدرسة كل شيء، فهو المعلم، والطبيب، والمفتي، وكل شيء. بل إن أحد أهالي تلك القرية رزقه الله مولوداً، فسمّاه «فيصل» على اسم مدير المدرسة فيصل الحكمي؛ من شدة تأثره به، فهم يعتقدون بأنه صاحب فضل كبير على القرية وأبنائها»، لافتاً إلى أن واحداً من أهالي القرية يتكفل كل شهر، بمأدبة غداء للمعلمين في المدرسة، وهي عادة قديمة درجوا عليها.
ويرتبط أحمد بعلاقة أثيرة مع طلابه، فهو يقضي معهم الكثير من أوقات الاستئناس والحديث الخاص. ونظم لهم دورياً لكرة القدم. ويحمل لهم هدايا خلال تنقله الأسبوعي. ويعقد معهم التحديات ومسابقة التوقعات لمباريات دوري المحترفين السعودي، الذي يشاهدونه من تلفزيون يتيم في القرية.
خالد الزبيدي، هو أقدم معلمي المدرسة إلى جانب مديرها فيصل الحكمي، ومعلم آخر اسمه محمد الحكمي. اصطحب خالد زوجته معه إلى مركز الفرشة، واستأجر شقة، وسكنا فيها، ورزقا بمولود سمّياه «ثامر». وكبر ثامر وانضم طالباً إلى المدرسة التي يعمل فيها والده، فلا ترف في الخيارات. وفي البداية وجد صعوبة شديدة في التآلف مع زملائه الطلاب، لاختلاف طريقة التعامل واللباس، وصعوبة أكبر مع اللهجة، لدرجة لا يستطيع معها الفهم والتواصل.
تسبب هذا الوضع في انزعاج كبير لدى ثامر ووالديه، لاسيما أنه كان يقطع مسافة ساعة كاملة، يمر خلالها بخمسة جبال لبلوغ مدرسته. وأصبح منعزلاً ومتبرماً، وسريعاً قرر والده في الفصل الدراسي الثاني نقله إلى مسقط رأسه. وانضم ثامر إلى مدرسة «عاجة» بالمظيلف التابعة لمنطقة مكة المكرمة، واختلف عليه الوضع تماماً، إذ جاء من مدرسة فيها 15 طالباً، إلى مدرسة يفوق عدد الدراسين فيها 500 طالب، فوجد تحدياً جديداً تسبب في إرهاق والده كثيراً.
ولعدم توافر شبكة للهاتف في المنطقة، يضطر مدير المدرسة إلى قضاء اليوم بأكمله في المهمات الوظيفية، في الصباح داخل المدرسة النائية، ثم يشق الطريق إلى منزله في مدينة أبها، ليبدأ في إدخال علامات الحضور والغياب والمتابعة اليومية في برنامج «نور»، في شكل يومي.
عمر، معلم اللغة الإنكليزية في مجمع الفرشة التعليمي الذي يضم 400 طالب، يأتون من الأودية المجاورة ضمن مجموعات، وقد تنشب بينهم «مخاشنات»، يقول عن زملائه: « إنهم من كل أنحاء المملكة، يجتمعون هنا»، لافتاً إلى أن بعض المعلمين، قدموا من الأحساء، والرس، والقصيم، وغيرها من مدن شمال المملكة، ولم يعتادوا الطرق الوعرة، لذلك تجدهم يعانون بصورة شبه دائمة من التقيؤ.
والواقع ان عمر يجد صعوبة في التأقلم. ويقول لـ «الحياة»: «حبل الأمل الأخير للنجاة هو أن يحالفك الحظ بالنقل». ومع بداية «عاصفة الحزم» التي أطلقتها السعودية لمواجهة المتمردين الحوثيين في اليمن، أوقفت الدراسة في كل المناطق الواقعة في نقاط التماس مع الجوار اليمني، ومن بينها مدرسة أحمد وزملائه.
إلا أنه مع العام الدراسي الجديد عاد عمر إلى عمله، بعد زوال الخطر عن المنطقة، ولكن دوي المدافع يصمّ الآذان، على رغم ذلك يصرّ عمر على إنجاز درسه، وهو يتذكر شقيقه العريف عبده في جبهات «الحد الجنوبي»، هو الآخر يعمل عنصراً في سلاح الإشارة بالجيش السعودي منذ 20 عاماً.
ويصطدم هؤلاء المعلمون القادمون من خارج المنطقة، بالسفر البعيد والشاق، ووعورة الطرق وصعوبة التنقل، وتواضع الخدمات والخيارات، ولكن أيضاً بالتفاوت الثقافي، إذ يلمسون عادات مختلفة تماماً حد البون الشاسع عما ألفوه في مدنهم الأصلية. فمن عادات الزواج، ابتداءً من الخطبة وتقاليدها، إلى عقد القران وشروطه، حتى المهر، الذي يكون عدداً من الإبل، وآخر من الغنم والبقر، وسيارة «جيب شاص»، من دون الحاجة إلى المال.
ويمكن الشاب الراغب في الزواج دفع المهر على دفعات، إلى أن ينهي ما عليه، وبعد ذلك تقام سهرة الزواج ويقلّ زوجته إلى بيته حتى انه يحدث أحياناً أن يحضر الأبناء حفلات زفاف والديهم!
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق