الواقعية لا تعني إلغاء مسؤوليتك أو تعطيل دورك ، لا تعني مطلقاً إلقاء اللوم على الظروف المحيطة والبيئة بحجة أن الواقع أقوى منك أو يستصعب تغييره ، هذا من الدونية وسفالة الهمم .
تغليفك الضعف والاستسلام بالواقعية من الظلم المركب ، والباطل المضاعف ، ومواجهة الظروف والتحديات ولو بأسلحة متواضعة خير من التنازل المبكر عن حقك في الحياة .
الواقعية في بعض صورها تعني إعطاء المرونة دوراً مؤثراً في المسألة ، تعني مواءمة الظروف ومقاربة الواقع ، الانثناء للعواصف ، ولا تمت إلى الاستسلام المطلق بصلة ، ولا تنحو باتجاه الرضا البائس بواقع يائس ، ولا التسليم العاجز بالظلم الناجز .
واجه واقعك القاصر بإمكاناتك المتواضعة ، ستجد هذا الواقع ينحني لكبرياء رغبتك ، يستجيب مذعناً لإرادتك الصلبة ، يخضع لجبروت قلبك وإصرارك ومضاء عزمك الذي لا يخور ولا يبور ، إمكاناتك اليسيرة نفسها ستتسع باتجاه القوة والتمكين ، قدراتك ستصبح أقوى وأكبر وأمضى مما كانت عليه سابقاً .
إنها ثنائية الصالح والمصلح المتضادة ، متقابلة المقاوم والمسالم المتنافرة ، مترادفة المقبل والمدبر المتعاكسة ، متوازية الصابر والساخط المتباعدة .
راودتني هذه الخواطر وأنا أرى حجم الخلاف الذي أخذ في التوسع حول حركة المقاومة الإسلامية " حماس " وتمسكها بخيار المقاومة في مواجة العدو الصهيوني المدجج بالترتيب الرابع عالمياً في القوة العسكرية الضاربة ، بين تيار يذهب بالحركة إلى سفح التقدير والتشجيع إلى درجة تجعل من نقدها ومناقشتها ضرباً من الخيانة والخروج عن ربقة الدين والأمة ، وتيار آخر يبالغ في التشنيع عليها والاستخفاف بها إلى مستوى الانهزام والاستسلام الكلي الذي يعطي الجلاد كل شيء ويمنع عن المظلوم حتى حقه في التعبير عن انزعاجه .
وبين التيارين تواصل الدولة المصطنعة في قلب العالم الإسلامي ابتلاع الأراضي الفلسطينية وتضيق الخناق وتسرف في انتهاك الحقوق وارتكاب المجازر ، ولا يحقق العرب والفلسطينيون إلا مزيداً من الانتكاسات ، فخيار السلم والمفاوضات الذي تتمسك به السلطة الفلسطينية ومن ورائها منظومة دولية وعربية ، لا يحقق لفلسطين وأهلها إلا أحلام يقظة سرعان ما تتبخر إلى النسيان ، ويبدأ الحلم الفلسطيني رحلته من الصفر مجدداً وكأنه يدور في حلقة مفرغة من الأمل الكاذب .
وخيار المقاومة لا يحظى إلا بمطولات الدعم الكلامي ، فضلاً عن المضايقات السياسية وتقتير الدعم اللوجستي ، واستحداث خطاب إعلامي يصنف المقامة إرهاباً ، إلى جانب الانشقاق الفلسطيني الحاد الذي توظفه إسرائيل لعرقلة نتائج خيار المفاوضات السلمي ، يضاف لذلك مناسبات الاستغلال الانتهازي للقضية الفلسطينية من أطراف دولية وإقليمية ، تزيد من الأعباء وتعكر الأجواء .
نظرياً ، وبالقياسات العسكرية البحتة ، فإن احتمال انتصار المقاومة على الترسانة الإسرائيلية مستبعد بالجملة ، ولكن على المستوى الاستراتيجي والمعنوي ، فإن المقاومة منتصرة بالثبات والصمود وانضمام الحق إليها وتعاطف الشعوب وتحريض المحيط لمناصرة الحق الفلسطيني ، ولو كانت المقاومة شوكة في حلق الاحتلال، وتخوض حرب إرهاق واستنزاف لعدوها، وتفتح جبهة قلق ومواجهة مفتوحة مع خصمها ، فهذا يكفي لتنال شرفاً يحتفظ به التاريخ في باطن المجد، كما أنها تذكر الأمة بأن خيار المقاومة مفتوح ومتاح ، وتقول ذلك بشكل أوضح لعدوها الذي ينتظر انهزامها نفسياً قبل استسلامها عسكرياً .
بقي أن الموازين مضطربة من جهة الخسائر ، فإن الفلسطينيين يسجلون رقماً عالياً من الضحايا الذين يغلب عليهم الأطفال والنساء والشيوخ في صورة مأساوية مؤسفة تتحمل وزرها عنجهية الاحتلال ودمويته ، وليس كما يروج أصحاب الواقعية المغالطة أن المقاومة تتحمل ذلك بجرها آلة الحرب القاسية ، عندما تلقي بألعابها النارية على هامات المدنيين المستضعفين في تل أبيب .
ليس من ذنب المقاوم الذي انفجر في لحظة كرامة ويأس فرمى ولو حجراً ، أن يتحمل مسؤولية تلك الدماء ، إنه يسعى ليمنع العدو عن تكرار ذلك ، ولأن الظروف قاهرة والأفق لا ينبئ بأمل ، اندفع خاوياً إلا من القهر الذي يفتك به ، وعندما يكون عارياً إلا من كرامته ، فهذا ذنب من يقصر في دعمه ، ثم يلومه على استعجاله واعتباطه .
ليس الذي يده في الماء البارد كمن يده في الماء الحار ، والذي يطأ بقدميه الجمر، ويتلظى من رمضاء الأرض؛ ليس كمن يمشي على بلاط بارد في عاصمة مثخنة بالعصرنة ، الذي يرى وطنه يتقلص أمام ناظريه، ويختطف من يديه ليس كمن يعيش آمناً بفضل التفاهمات المغتسلة بالاستسلام ، والتاريخ يقول إن المحتل يكتسب صفة " العدو " وبذلك فإنه لن يسلمك الحقوق بارتياح ، ويشير التاريخ إليك بقصص المقاومة التي كانت دائماً أقل عدداً وناصراً من خصمها المحتل ، ولكنها تجعل الأرض علقماً وعسيرة على المذاق؛ فلا يستطيبها المحتل، وينهزم أمام رجالها .
المقاومة تحتاج إلى رافعة شعبية ، ووحدة داخلية ، ونسيج متماسك ، وتأييد دولي ، وتعاضد إقليمي ، تحتاج المقاومة إلى خلق مبرراتها الشرعية والإنسانية من واقع أخلاقيتها وشرفها وعدالة قضيتها ، الشعوب العربية المحيطة وتلك الإنسانية التي تنتشر في العالم لن تكون إلا بجانب المقاومة دائماً ، ولكنها غير ممكّنة من التأثير في واقعها ، ولذا تبدو الازدواجية في المواقف والاحتراب على مستوى الخطابات ، وهذا يضاعف الحمل على المقاومة وينتقص من نتائجها ويقلب ميازين العدل والمنطق .
المقاومة معنى فاضل في صورته التجريدية والأولية ، ولكنها على مستوى الواقع والتطبيق لا يجب أن تتصف باستعلائية تنأى بها عن اللوم والنقد ، لأنها عمل بشري في النهاية ، ولكن اللوم الذي يريد منها أن تسلم بسلاحها في وجه عدو لا يعترف بها، ويستزف حقوق أهلها، ولا يبدي أي استعداد للتنازل أو الاعتراف ، فإن المعادلة تحتاج إلى إعادة نظر .
كل من يلوم المقاومة ، ويحتفل بخيار المفاوضات السلمي ، لايأتي بمثال واحد يثبت به تقدماً أحرزته المفاوضات مع المتعجرف الإسرائيلي وخدنه الأمريكي إلا مزيداً من التسويف والمماطلة ، مما يجعل المقاومة خيار المضطر وحيلة العاجز إلا من أمله باستعادة أرضه ، ودعمه واجب باسم الدين والقومية والإنسانية .
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق