عمر علي البدوي
«لا تحلم كثيراً وتنسى أن تعيش» رسالة بلاك بيري.
لا تستغرب عندما يرفع أحدهم صوته بالقهقهة وهو منفرد ومنكب على وجهه، أبداً لا تعتقد أنه ملبوس بجان أو مارد من شيطان، هو كائن بشري عادي استسلم لحراك نشط في جهازه الجوال وتصرف بطبيعته، فتجده مرة ضاحكاً وأخرى مستغرقاً في الصمت، ومرة يفرط طاقته في نهايات أنامله.
لعمري فما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
يبدو أن العيش في الواقع أصبح مملاً ومستثقلاً، وبالأحرى أصبح تقليدياً ولا يأتي بجديد مفيد ولا يبدئ ولا يعيد، إذا ثمة حياة أخرى في موقع افتراضي وشبكة اجتماعية وملتقى إلكتروني.
تجمّع ما يحمل طابعاً نشطاً، وكائنات ملونة وفضاءات مبهجة، لا معنى للهدوء والملل و(الطفش)، شبكات التواصل وبدائل الاتصال لا تتوقف، لا تهدأ، النقاش مفتوح، والتعارف مسموح، والتواصل لا تعيقه شروط الاتصال المباشر ولا تكاليف المجتمع المثقلة بالبروتوكولات.
فجأة!! تصبح معزولاً عن عالمك وتعيش في (جو ثاني) وعالم آخر، لا غرابة إذا اندهشت مرة لأنك لم تعرف بحدث نزل في قريتك إلا بعد فوات وقته وانخماد ذكره، شيء طبيعي في ظل العوالم البديلة المغرية.
«طورت أحد الشركات الكورية كراسي مزودة بمؤثرات خاصة كالرياح، الضباب، الأضواء الخاصة، والروائح التي تتزامن كلها مع أحداث الفيلم، فحين يعرض مشهد البحر مثلاً ستهب عليك الرياح المُحملة برائحة البحر وكأنك داخل المشهد!!
تمت تجربة هذه التقنية الغريبة على فيلمي كونج- فو باندا 2 والجزء الأخير من قراصنة الكاريبي، وتم تزويد الكراسي أيضاً بمحرك خاص يقوم (بضربك) بخفة حين يتعرض بطل الفيلم للضرب أو الوقوع لينتقل شعوره إليك!!
فكرة مثيرة جربتها شركة CJ 4DPlex في سيول وافتتحت مؤخراً فرعاً لها في لوس أنجلوس لنقل هذه التقنية إلى أمريكا، ليتم نقلها بعدها إلى أوروبا ومن ثم باقي أنحاء العالم.
وبالرغم من أنها قد تبدو ممتعة لكن أثرها الملاحظ على جزء كبير من الحضور كان إصابتهم بالدوار والشعور بالغثيان وكأنهم كانوا جزءاً من الفيلم بالفعل!!».
هذا نص خبر تبادلته مواقع الإنترنت وجاء العنوان (ولأن الأبعاد الثلاثة لا تكفي: أفلام البعد الرابع ستضعك بكل حواسك داخل الفيلم!!) ثم اختتم الخبر بهذا السؤال: ما رأيكم في فكرة إضافة مؤثرات فيزيائية على مشاهدة الأفلام؟!! .
إنه مزيد من الهروب من الحياة، مزيد من التقنيات والمكتشفات للخروج من رحم الطبيعة، وكأنه عملية عقوق لأحضان الإنسان الفطرية، والمؤسف أن الجشع التجاري ينفخ في النار تماماً كما تطاولت يد الطمع الصناعي إلى تشويه الطبيعة ومفاقمة أخطارها، وهذا ما يدعو للقلق.
شيء ممتع للغاية الجلسة مع صديقي مفرح البدين في (خبات الصفة) وهي عبارة عن صحراء منبسطة تشكل فيها الرمال ملامح ساحرة، عبق جنوبي معتق معجون برائحة المطر التي لا يشبهها شيء.
في قريتي (الصفة) كل شيء مصنوع من الطبيعة، لا نستأجر أفراحنا من الخارج، ولا نخضع لإلحاح التقنيات الحديثة ولا التكنولوجيات التجارية، لا شيء يشوه الهواء ولا الفضاء ولا الأرض ولا السماء، كل شيء ينتمي إلى هذه الأرض حتى أسماء الحارات العتيقة مشتق من عمل الطبيعة في نفسها، فحارة (القهر) لأنها كانت مصعداً ترابياً شاهقاً تتمنع على العاجزين ولا يبلغون ذروتها إلا بشق الأنفس، وحارة (مسيكة) لأنها أرض سحيقة تمسك الماء ولا تفرط به، وأما حارة (الطلعة) فلأنها أرض تشرف على القرية وتربض في علو، هكذا كل شيء في قريتي لا يتبرأ من أصله ولا يخرج من سياق نصله.
إذا انهمرت السماء بالماء هزت الأرض خاصرتها من شدة الفرح حتى تكاد تشم رائحة المطر قريباً من أنفك، عندها استنشق هذا الهواء الممزوج برائحة التراب الذي تخلّقت منه جسداً طرياً، إنه الانتماء إلى الأرض، مثل نشيد الوطن الصباحي.
في الصباحات الجادة تسمع صوت المركبات وهي تجوب الطرقات وتبث نعيقها المهلهل، قف إلى جانب الطريق العام وأرهف سمعك لحديث الأرض وهي تتلو تراتيل العمل والكدح والشقاء.
عند حلول المساء، ينتشر الهدوء الجميل وكأن الكون يهمس في أذنك الموصولة بقلبك، أو يوحي إليك بحديث ينساب إلى أعماق روحك، تلتقط أنفاسك وتصف أوراقك وتعيد تهيئة روحك من جديد لأجل يوم جديد.
إنها الطبيعة تخاطبك، لا تضع إصبعاً في أذنك، أو سماعة هاتف تصخب بما وراء الكواليس، منتجات سمعية تخيل لك متعة صناعية ولذة تجارية، لا تساوي أبداً هذا الانسجام العميق مع الطبيعة.
اليوم استبعد كثير من الشباب فرص التعافي النفسي والنضج الروحي بمجرد الانفصال عن الواقع البشري والوسط الاجتماعي والاحتضان الكوني، تقوقعوا حول ذواتهم وفرضوا طوقاً شائكاً من تقنيات وأجهزة وآلات، شيء مزعج بالفعل المغالاة في الاستخدام إلى درجة الانفصال عن عالمك الخارجي.
هذا ما يحدث للإنسان لوحده، ماذا يحدث للأسرة؟ لأن الاحتكاك البشري ينضج الإنسان والتواصل الأسري ضرورة لاستقرار الطفل والمراهق ومطلب أصيل في بناء شخصية سوية تتمكن من الانخراط في المجتمع بفاعلية واقتدار.
«في مقدمة كتابه المثير للجدل «العته الرقمي»، يقول عالم الأمراض العقلية والنفسية، والباحث في وظائف الدماغ، البروفسور مانفريد شبيتزر أن استخدام «غوغل» و»تويتر» منذ نعومة الأظفار يؤدي إلى إصابة إنسان المستقبل بالعته الرقمي، وبـ «الزهايمر الرقمي» سببه عدم تمرين الدماغ بما يكفي، والاعتماد على التقنية الحديثة في حل أبسط المشاكل، بدءاً بجدول الضرب في الرياضيات وانتهاء بالبحث عن مفهوم «العته الرقمي».
وتنطبق هذه الحال بالضبط على الأطفال قبل غيرهم، وهو ما قد يهدد أجيال المستقبل بالعته المبكر، ويستند الكاتب إلى عشرات الدراسات، وإلى عشرات الصور الدماغية الشعاعية، وإلى الكثير من الحقائق، مؤكداً أن البشرية لا تتعامل «بعقل» مع الثورة التقنية المعلوماتية «مجلة المجلة».
مرات قليلة يأخذ أحدهم قراراً بإغلاق هواتفه لفترة معينة، يريد أن يعود إلى حياته الطبيعية، أن ينقطع لأسرته وصداقاته، أن يتخلص من قبضة هذه التقنيات المقيتة.
بالفعل بدأ المجتمع يضيق من هذا الانحياز خارج الحياة، وبدأت شبكات التواصل تتناقل مقولة يذكر أنها لآلبرت آينشتاين حيث قال: «إنني أخشى اليوم الذي تحلّ فيه التكنولوجيا محل التفاعل البشري، عندئذ سيجني العالم جيلا من الحمقى».
الرابط :
http://www.makkahnp.com/makkahNews/blogs/80877#.VDqj8vl_tdM
تعليقات
إرسال تعليق