التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الوطنية السعودية منتج مرتبك




عندما ضعف التعبير القانوني والتفسير المحلي للوطنية، أصبحت الوطنية عرضة للاستخدام العبثي من التيارات المتنافرة، التي توظف تفسيرها المغلق لهذا المعنى لإبعاد خصومها.

العرب : عمر علي البدوي [نُشر في 17/10/2014، العدد: 9710، ص(8)]


يمكن وبكل بساطة أن تخرج من دائرة الوطنية عندما تشجع فريقا آسيويا أو دوليا يلاقي فريقا سعوديا في مسابقة رياضية عادية، الأمر نفسه يمكن أن تواجهه عندما تنتقد أداء قطعة حديدية تشق طريقها للمرة الأولى في المشاعر المقدسة، وتضيق الوطنية حتى لا تكاد تحتملك عندما تمتنع عن الاكتتاب في بنك وطني أعلن عن بيع أسهمه في السوق المحلية.
هكذا، وبكل بساطة، تصبح الوطنية عرضة للابتزاز والتنابز بين رموز وتيارات متوهمة تعيش حالة من الاحتقان مع كل فرصة للالتحام في الواقع، أو على صفحات التواصل الافتراضي والإعلام الجديد، تتنازع صكوك الوطنية على هوى التوجه الذي تنتمي إليه، وتعبث بهذا المعنى الفاضل على ساحات صراعها الأيديولوجي العابر.

يلغي البعض حقك في التعبير عن الرأي، ويرفض تقبل الآراء المخالفة في إطار من التعدد المتاح في ظل حراك فكري وثقافي، يتناول مسائل مختلفة ومن زوايا نظر متباينة، في منطقة تعيش حالة من تدفق التحولات الجذرية والهامشية. يستخدم ورقة الوطنية للضغط على الآراء التي لا تروق له ويقصيها بطريقة جنونية، ويستخدم شعار الوطنية أحيانا بطريقة عبثية تسيء إلى هذا المعنى المتسامي لأجل معارك لا قيمة لها أو معنى.

يبدو وكأن المسألة نوع من ردة الفعل الكامنة لتيار ظل لعقود تكال له تهم الإقصاء الديني، ويعاني الإبعاد من جموع الحركيين الإسلاميين الذين يبيعون إجازات الانتماء الديني إلى قطاعات عريضة تتعطش إلى خطابهم وتنساق لأوهامهم.

كانت الوطنية خيانة سياسية في اعتبار الموجة القومية، وخيانة دينية في رأي الفورة الصحوية، وفي كلا الحالين كنا نواجه المسألة بإقصاء التكفير أو التخوين، ولم نتصد للمسألة من وجهة موضوعية ومعتدلة، أو نجسد الوطنية في منتج قانوني منضبط ومستقر.

وعندما ضعف التعبير القانوني والتفسير المحلي البحت للوطنية، أصبحت الوطنية عرضة للاستغلال والاستخدام العبثي من التيارات المتنافرة، التي توظف تفسيرها المغلق لهذا المعنى لإبعاد خصومها التقليديين.

هذا من جهة التنابز المتبادل بورقة التخوين الوطني أو التكفير الديني، ومن جهة المواطنة كمعنى منضبط في الذهنية الاجتماعية والحضور القانوني، فهي تعاني شيئا من الابتسار والضعف، إذ بقي المجتمع لعقود طويلة مشدودا باتجاه القضايا التي تتجاوز حدود وطنه، أيام القومية التي باعته أوهام الوحدة الكاملة والنصر المظفر، وتلتها عقود الصحوة التي أذابت الإحساس بالمواطنة لصالح الانتماء إلى الأمة، وذوى الشعور بالوطن.

وما زالت القضايا الخارجية تنازع الوطنية، وتستخدمها التيارات المحلية لتصنيف الآراء على مقياسها المنقبض والضيق، كما تستخدم هذه القضايا أحيانا وتتحول إلى هياكل خطرة تهدد الوطن لتأجيل الشعور بالمواطنة المشروطة ورفع سقف المطالب الملحّة.

انتقلت هذه المقاييس “التياراتية” المتشنجة إلى مرحلة من المكارثية الطافحة تنمو باطراد، وتعمل على مزيد من التسويف للاستحقاقات اللازمة لدفع عجلة التنمية المستجيبة لنداء التغيير والإصلاح، واستيعاب المستقبل المختلف الذي ينتظر البلاد والعباد.

منهج التربية الوطنية الذي أقرّ في التعليم العام السعودي منذ سنوات لا يقدم وجبة دسمة للطالب، فهو منهج بارد تماما، ويلقن التلاميذ رومانسياته الفاخرة بطريقة خطابية لا تسمن ولا تغني في ظل هذه الانتماءات المتزاحمة في محيطه، حتى تكاد تتخطفه من قاعة درسه.

إقرار مؤسسات المجتمع المدني وتوسيع المشاركة الشعبية يعززان الشعور بالمواطنة، ويرفعان من درجة المسؤولية الشخصية تجاه الوطن ومرفقاته وكل ما يتصل به، السماح بالهويات الصغرى للتعبير عن نفسها في إطار من الثراء والتنوع المتسامح والمتصل بالتركيبة الوطنية المنسجمة، يحيي الشعور الأصيل بأن الوطن يحمي الجميع ويرعاهم.

تطوير الحالة القانونية بما لا يدع لمتآمر استغلال ثغرة ما، ولا يفسح لوصولي استفزاز أبناء بلاده بتضييق إطار الوطنية على خصمه الأيديولوجي، وتوسيع مستوى الثقافة الحقوقية، مع الحفاظ على الصورة الرومانسية للشعور الوطني والاتصال العميق والاحتفالي بالأرض، والذي يتجدد مع كل مناسبة تعمّق الإحساس بهذه البلاد.

التعويل على المنجزات الوطنية والقياس المستمر لحالة التقدم والتنمية، والمواجهة الصادقة والجادة للمخاطر وإخفاقاتنا وصور تقصيرنا الإداري والأهلي، والتذكير بقوة وحدتنا السياسية، ومكتسباتنا من الأمن والثروة والإرث الديني المميز، كل هذا يزيد من شعور الانتماء إلى الوطن والفرح به.

توسيع مساحات التعبير، والتقليل من الخيارات الأمنية في التعامل مع الآراء المنضبطة والعفوية، وعدم مناصرة طرف على آخر، أو ترجيح تيار على آخر لأغراض مصلحية راهنة، كل هذا يرسي أركان وطن العدالة والمساواة. وكل عام ووطني وقيادته وشعبه بألف خير.

كاتب صحفي سعودي

الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...