لا يستبعد أن يعود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لسيرته الأولى للاستثمار في الجماعات الأيديولوجية في حال انفجرت أزمة مّا بعد أن أثبتت أنها تحسن اللعب في بؤر الفوضى والخراب.
في إطار سعيها الحثيث لتجاوز ظروفها الخانقة على كافة الأصعدة شرعت أنقرة في إصلاح ما يمكن إصلاحه من علاقات خارجية وترتيبات داخلية للتخفيف من فداحة الثمن الذي دفعته جراء سياساتها المتهورة خلال السنوات الأخيرة. الفشل في جملة من الملفات والاستحقاقات حتّم على صانع القرار المنفرد بتشكيل الشأن العام التركي اتخاذ خطوات جراحية قاسية تكلفه بعض التنازلات يقدمها إلى جيرانه الذين طالما أمعن في استفزازهم والإساءة لهم وإثارة نقمتهم.
بالنسبة إلى الجانب العربي، المصري خصوصا، كانت ورقة الإخوان الورقة المفضلة التي يمكن أن تقدمها تركيا لترميم علاقاتها بجيرانها. وأصبح واضحا بالنسبة إلى البلد المضيف أن منهج وطرح وقدرة الجماعة باتت عاجزة عن التقدم إلى الأمام، وأن المنطقة العربية قطعت الطريق على أي احتمال يتضمن وجود الجماعة أو يتسامح مع عودتها.
ولأن الإعلام هو وحدة القياس الأولى في تناول الخيارات السياسية غير المرئية، اُستدعي مالكو ورؤساء الفضائيات التابعة لجماعة الإخوان ممن ينشطون منذ عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي على الأراضي التركية إلى اجتماع عاجل، وطلب منهم تغيير مضامين قنواتهم، والبدء تدريجياً في إقصاء السياسة التركية عن أي أجندة من شأنها إثارة حنق الجانب العربي واستفزازه.
حاول أصحاب القنوات الفضائية امتصاص الصدمة الأولى بتقديم تفسيرات ظنية بشأن هذه الخطوة، من قبيل أنها مجرد تطوير في إطار ما وصفوه بميثاق “الشرف الإعلامي”، ولكن مخاوف من أن تتبعها التزامات أكثر قسوة تتطلب منهم اتخاذ مبادرة من شأنها أن تعيق التوصل إلى أي تفاهم محتمل يحول دون إقصائهم الكامل وتطويق نشاطهم، أجبرتهم على إعادة التفكير في خيارات منفى بديل.
وللتذكير كانت قطر قد لوحت بالتخلي عن دعم الإخوان إبان المحاولات الأولى لإنهاء أزمتها خلال التفاهمات المبكرة مع جيرانها عام 2019، سواء بالتقليل من الرعاية المباشرة أو نقلهم إلى مستوى الدعم غير المباشر. المهم أن تنظيم الإخوان كان كبش الفداء المفضّل للعاصمتين في سعيهما لإصلاح علاقاتهما والتفاهم مع جيرانهما والتخفيف من كلفة السياسة الشاذة والشاقة التي اتبعها كل منهما.
هناك تفسيرات كثيرة تتعلق بهذه الخطوة وما إذا كانت نتيجة انعكاس للمصالحة الخليجية التي شملت إنهاء أزمة قطر وإعادة ترتيب العلاقات بين الأطراف الخليجية على أساس الوضوح والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية، أو كانت بسبب سياسة الوافد الجديد إلى البيت الأبيض وما تبعها من تحولات في منطقة الشرق الأوسط، أو نتيجة ضغوط وتحديات وتبعات السياسات العمياء التي تجاوزت قدرة تركيا على الاحتمال.
في جميع الأحوال، إنها خطوة مهمة ومؤشر يؤكد قيمة المصالح وتبدل الحسابات السياسية وتأجيل المبادئ وإعادة إنتاجها حسب الظروف المستجدة والطارئة.
تغليب المصالح على المبادئ مفهوم يبرز في سياسات إيران بوضوح من خلال رعايتها لرموز ونشاط تنظيم القاعدة السني، ومن خلال دعمها لأرمينيا ضد أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية، ولن تتردد عن فتح قنوات سرية مع الشياطين الكبرى والوسطى والصغرى إذا حتمت عليها مصلحتها ذلك.
الغريب أن الجماعات المؤدلجة لا تضع ذلك ضمن حساباتها، الأمر الذي يبقيها في دائرة مغلقة من الانفعال والدخول في متاهة من العلاقات السياسية الشائكة شديدة التعقيد، فضلاً عن توظيفها في اختراق المجتمعات المحلية وإعاقة عمل الدولة في تسيير الشأن العام ورعاية مصالح البلاد.
المنطقة تعيد تشكيل نفسها من جديد، رغم كل القناعات القديمة التي بولغ في تقديرها، بعد جولة خاضتها خلال العقد الماضي لم تخل من الخسائر والدماء والفوضى استنفد خلالها الإخوان ومعهم بقية من الأدوات الأيديولوجية أغراضهم بعد أن قررت عواصم المنطقة التي طالما استثمرت في الجماعة لتمرير مشاريعها أو تمترست خلف سرديات المظلومية التي روجت لها أن ترفع عن كاهلها العبء الذي تضخم خلال السنوات العشر الماضية.
السودان واحد من الدول التي حققت خطوات مهمة على هذا الصعيد بعد أن تخلص من نزيف الاقتتال الذي كان يخوضه سعيا وراء حسابات خاطئة، وتخلص من جرثومة الأيديولوجيا التي وجهت سياساته العامة حتى وقت قريب، وإزالة المعوقات التي حالت دون بناء سودان صحيح ومعافى، وعكف على إصلاح أحوال البلاد والعباد.
رغم ذلك لا يستبعد أن يعود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لسيرته الأولى ويستثمر في الجماعات الأيديولوجية في حال انفجرت أزمة مّا، فهذه الجماعات تحسن اللعب في بؤر الفوضى ومستنقعات الخراب.
أثبتت أنقرة في عهدة الذهنية التسلطية ونهم التوسع أن مشكلتها ليست مجرد استضافة جماعة ما أو طردها، بل لديها سجل من التدخلات المؤذية في المنطقة العربية. لقد كانت وراء الكثير من المشكلات والتوتر في الخليج واليمن والعراق وسوريا ومصر وليبيا وتونس، وكانت تتصرف ضد مصلحة هذه الدول العربية إلى أن أصبحت الفاتورة باهظة جداً، وانعكس ذلك سلبا على الأوضاع السياسية في الداخل التركي، مما شجع بعض رفقاء الأمس للانقلاب على أردوغان.
أحمد داوود أغلو أقرب أعضاء الحزب إلى أردوغان حتى وقت قريب قدم وصفة يمكن أن تختصر الكثير من جهود التحري والبحث، قائلا “لا توجد ملفات يمكنك عرضها واستغلالها، أنت لا تعمل وفق الحقائق، لقد حولت الإدارة الحكومية إلى مسلسلات قدمتها للقنوات التلفزيونية، كل ما تفعله هو مجرد بيع للأحلام”.
تعليقات
إرسال تعليق