لم تكن العلاقات التي جمعت بين عواصم خليجية مع روسيا أو الصين، مستقرة ولا ثابتة. كانت تذبذب بين الحد الميسور من التعاون الاقتصادي، والحد الأدنى من التعاون العسكري، لكنها بكل الأحوال لا ترقى إلى التواصل الاستراتيجي لدعم توجهات ومساعي الكتلة الخليجية في تمتين قدراتها العسكرية وتوسيع استثماراتها الاقتصادية وتنويع سلة حلفائها.
عوامل متعددة ساعدت في الآونة الأخيرة على زيادة منسوب هذه العلاقات، من قبيل نوايا بكين وموسكو الجادة للتوسع في منطقة الشرق الأوسط، وتذبذب الدور الأميركي في تعامله مع حلفائه التقليديين في الخليج، بالإضافة إلى طبقة حاكمة جديدة في دول الخليج، تتبنى بشكل أوضح الخيارات والبدائل المطروحة لمواجهة التحديات الملحة والاستحقاقات الاستراتيجية الراهنة.
احتفت روسيا الأسبوع الماضي بمرور 95 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين روسيا السوفييتية والمملكة العربية السعودية، مشيرة إلى أنها أول دولة غير عربية اعترفت بالمملكة، وأقامت معها علاقات دبلوماسية في فبراير عام 1926، وذلك عبر الحساب الرسمي لوزارة الخارجية الروسية في تويتر.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أوضح أن علاقات بلاده مع السعودية تتطور بشكل متزايد، مشيرا إلى أن العلاقات مع السعودية اكتسبت مؤخرا طابعا واسعا وشاملا.
التعاون الروسي السعودي الفعال في إطار “أوبك+”، أسهم في ضمان استقرار أسواق الطاقة لفترات طويلة، وأعطى أرضية مشجعة على الاستمرار فيه وتوسيعه إلى مجالات أخرى.
لم يسلم التعاون في هذا الجانب من بعض الأضرار، وتقوم الرياض وموسكو بإصلاح ذلك، والحصول على أفضل تسوية لحماية السوق، باستخدام المكاسب المتبادلة، وربما أوراق الضغط إذا لزم الأمر.
كانت روسيا متشكّكة دائما في جدية توجه دول خليجية إليها، إذ سيتسبب الميل الصريح إليها في استفزاز واشنطن، الحليف التقليدي للمنطقة التي استشاطت غضبا على أنقرة عندما قررت الحصول على منظومة أس – 400، وأن التواصل معها سيبقى في إطار ردة الفعل، ومحض تلويحة إلى واشنطن لتلبي رغبات حلفائها والتوافر على خدمة أجندتهم.
لكنها تلمس الآن رغبة حقيقية في توسيع الشراكة معها، على الأقل اقتصاديا وعسكريا في الوهلة الأولى، وستكون للنمو الهادئ والمثمر في العلاقات مكاسب متبادلة دون إثارة الكثير من قلق الحلفاء أو استقطاب نشاطهم الهادف إلى تعكير الأجواء.
السؤال الآن، هل موسكو جاهزة للاصطفاف سياسيا مع وجهة نظر دول الخليج تجاه مخاوفها وطموحاتها في ملفات المنطقة وقضاياها، على الأرجح لن يكون ذلك سهلا ولا مطابقا، لكنها ستلعب دور التبريد والتقريب بين وجهات النظر أحيانا، وستستخدم تأثيرها في أحيان أخرى كثيرة. مفيد للمنطقة أن تبقى روسيا خيارا متاحا وقابلا للتوظيف بما يكون مربحا للجميع.
تودّ موسكو أن تحافظ على سياسة مشجعة في المنطقة؛ في الملف السوري تتواصل مع الجميع، تركيا وإيران ونظام الأسد وإسرائيل ومجموعات المعارضة، لم تحقق نجاحا كبيرا ولكنها لم تفشل، وكشفت قدراتها على أنها في العمل بمفردها قاصرة إلى حد ما.
في الملف الإيراني، مثلا، لن تتخذ موسكو أي دور يتجاوز الجهود الدبلوماسية، فهي لا تملك أوراقا اقتصادية واستراتيجية يحتكرها اللاعب الغربي، وهي لا تميل إلى خيارات عقابية لأنها دائما ما اكتوت بنارها، ومهمتها أن تحوز المكاسب بحد أدنى من الالتزامات.
وتسببّ الأداء الأميركي بالكثير من الأضرار للمنطقة؛ التباين في سياسات الرؤساء المتعاقبين بانتماءاتهم الحزبية المختلفة، كان ينعكس سلبا على دعم توجهات في المنطقة، ثم نقضها بمجرد وصول رئيس آخر إلى البيت الأبيض.
كانت المنطقة في لحظات كثيرة في مهب الريح، لمجرد أن يقوم رئيس أميركي بتقويض ونقض خيارات سلفه، ويجرّ بذلك كل مناطق النفوذ الأميركي إلى دوامة الشيء وضده. الأمر الذي شجع عواصم في المنطقة على رسم سياسات أقل اعتمادا على تذبذب المنطق الأميركي، سواء بتنويع سلة الحلفاء، واستقطاب شركاء دوليين آخرين، أو تطوير القدرات الذاتية، وإبرام تفاهمات إقليمية جريئة تكسّر التابوهات العتيقة، وتكون مفيدة للجميع بالاستثمار في نقاط القوة الموزعة بين دول المنطقة.
ويمكن استثمار التواصل مع روسيا لتسريع بعض الملفات التي يتعذر ويتعثر الاتفاق بشأنها مع الغرب عموما، بسبب أولوية مصالحهم في النظر إلى هذه التفاهمات، وموازنة علاقاتهم مع متنافسين متناظرين في المنطقة نفسها، واهتمامات مثل توطين التكنولوجيا والتصنيع العسكري والتقنيات النووية المتقدمة، يمكن تسهيل التقدم فيها بالاعتماد على خدمات صينية وروسية دون انتظار حسابات الغرب التي تصبّ على الأغلب في توريط هذه الخطوات بجملة من الحسابات والمعادلات الشائكة والمعقدة.
تشعر واشنطن بتبرّم حلفائها في المنطقة، وهي تدلي بتصريحات تبدو متناقضة شكليا، مثل التذكير بالإبقاء على مبدأ أمن وحماية الحلفاء، وفي نفس الوقت تتخذ قرارات في صالح خصومهم، وذلك للحفاظ على خط الاتصال معهم حيويا، وقطع الطريق على اندفاعهم نحو موسكو أو بكين.
عواصم المنطقة نفسها لا تريد أن تقدم هذه التفاهمات مع روسيا أو الصين إلا في إطارها الموضوعي، وهي لا تعني القطيعة أو الانقلاب على الحليف التقليدي والمفيد، ولا إبداء اندفاعة غير منطقية، قد تثير الكثير من غبار الجدل وتعرقل الخطوات النوعية والمثمرة من فكرة تنويع الخيارات وتوسيع خارطة الشراكات.
في نهاية شهر فبراير الماضي، وجهت الحكومة الروسية وزارتي الخارجية والدفاع لإجراء مفاوضات مع السعودية بهدف إبرام اتفاقية جديدة للتعاون العسكري بين الدولتين، والبدء في تنظيم زيارات الوفود والخبراء المتبادلة وتدريب الكوادر العسكرية وإقامة تدريبات وتمارين مشتركة، وهو ما يؤكد تزايد المؤشرات على تطوير العلاقات والجدية في ذلك.
تعليقات
إرسال تعليق