وضعت المنافسة الانتخابية الأميركية أوزارها وملفاتها، ويستعد العالم لمرحلة جديدة من النفوذ والسلوك الأميركي تتوخى فيه واشنطن لملمة مصالحها وإعادة صياغة حضورها في ميادين العالم والأقاليم، ومن المرجّح أن يستمر تذبذب السلوك الأميركي لأن عوامل حدوثه الخارجية تغلب على عوامله الداخلية، وإن كانت واشنطن منذ ثلاث دورات انتخابية تقريباً اختارت أن تخفّف من أعباء تدخلها في مناطق الصراعات، لكن الواقع أن العالم نفسه، ونمو قوى إقليمية جديدة وتحولات استراتيجية في مناطق متفرقة من العالم، فرضت على واشنطن هذا التذبذب والتردد غير المفهوم في أحايين كثيرة.
منطقة الخليج واحدة من تلك البقع التي كانت ميداناً لنشاط أميركي محموم، ليس منذ التفاهمات التاريخية بعد انطواء بريطانيا على نفسها ومحيطها الأوروبي في الستينات، وليس خلال المراحل المفصلية من نشاط عسكري وسياسي كبير تبنته واشنطن في الخليج، في إطار حروب الخليج المتعددة أو توتراتها غير المحسومة مع إيران، أو في علاقتها الذهبية مع إسرائيل.
مؤخراً، فهمت دول الخليج العربي إشارة مهمة صدرت عن واشنطن، بأنها لم تعد سخية في علاقتها الاستراتيجية تجاه الشرق الأوسط، وجاء الرئيس الأسبق باراك أوباما، وأعقبه الرئيس دونالد ترامب ليضعا العلاقات على قواعد جديدة ونمط مختلف تماماً عما ألفته الأطراف، وأضحى على العواصم الخليجية أن تعيد النظر في أوراقها وإمكاناتها لهندسة واقعها وعلاقاتها واستعدادها، بما يجهز أفضل استجابة للواقع الجديد.
كل العالم يودّ لو تخلص من حالة حبس أنفاسه لترقب الواصل الجديد إلى البيت الأبيض، وأن يكون العالم بمنأى عن الحسابات الداخلية الأميركية التي تزداد حدة واستقطاباً وتردداً من النقيض إلى النقيض.
لكن الدور الأميركي، على قلق تذبذباته، يصعب الخلاص منه تماماً، على الأقل حتى الآن، ربما بعد استواء الصين على سوق التأثير العالمي، وحيازة كل شروط القطبية التنافسية، وهو ما تسعى دول إقليمية للاستثمار فيه مبكراً، وتجهد واشنطن لإعاقته أو إبطائه على أقل تقدير.
لكنّ الصين بثقافتها وسلوكها وأثر تدخلاتها وخبرتها المعاصرة، ليست مشجعّة تماماً بأن يكون وصولها أخيراً إلى سدرة المجد السياسي في سبيل خير العالم.
لم تكن دول الخليج في لحظة أفضل ممّا هي عليه اليوم لحسم علاقتها مع الآخر، الإقليمي والعالمي، وإرساء حالة العلاقة على مبدأ الاحترام المتبادل وتعزيز السيادة الداخلية وغاية الاستقلال في القرار ونفي الارتهان لأيّ مؤثر أجنبي إلا في إطار ما يحقق مصالحها.
وذلك بعد القطع مع الكثير من الملفات المؤجلة، ووقف نزيف الابتزاز والمضايقة حول قضايا الحقوق وسواها، فضلاً عن مواجهة مشاريع التدخل في الإقليم، ومن جهة طيّ تاريخ العداء اللانهائي مع دول كان مجرد الحديث إليها ضرباً من الخيانة واقتراباً من حافة الجحيم.
تعليقات
إرسال تعليق