تكاثرت التحليلات والتخمينات حول دلالات لغة دافئة بين الرياض وأنقرة، بدأت مع مكالمة هاتفية جرت بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس التركي رجب أردوغان، كانت ستبقى في إطارها البروتوكولي بالنظر إلى مناسبة قمة العشرين التي استضافتها مؤخرا الرياض، لولا كلمة وردت في البيانين الرسميين الصادرين عن العاصمتين بأن بابا للحوار سيبقى مفتوحا بينهما.
ثم جاءت تصريحات ملفتة لوزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، وصف فيها العلاقات بين بلده وتركيا بـ(الطيبة والودّية) وبذلك قطع الطريق على فكرة العداء والمقاطعة التي كانت تتردد في الأفق.
وقبل ذلك بإرسال مساعدات طبية وإنسانية عاجلة للمتضررين من الزلزال الذي ضرب مدينة إزمير التركية، وأخيرا بتهنئة الرئيس التركي رجب أردوغان، السعودية بنجاح قمة مجموعة العشرين.
ورغم أن أيا من المؤسسات الرسمية في البلدين لم تدل بتصريحات تعكس مستوى الخصومة في العلاقات بين الطرفين، إلا أن حالة الإعلام ومسار الأحداث والمناسبات، وهي كافية في العرف السياسي، كانت تؤشر إلى توتر حقيقي بين البلدين.
ذهب أردوغان، المتخبط، بعيدا في إبداء العداء لدول الخليج وعلى رأسها الرياض، وحافظت الأخيرة على عادتها في عدم الانجراف خلف سراب التصريحات العمياء، وتمسكت بنهجها المألوف بعدم حرق مراكب العودة، وأن شرارات الكلام لا تسمن ولا تغني في ميدان الأفعال.
اعتقد أردوغان لوهلة أن استثماره في قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي لابتزاز السعودية في عدد من الملفات سيكون مربحا وضاغطا على الرياض، سافر مستعينا بملف القضية وتجييش جماعات الإخوان ومنصاتهم الإعلامية إلى عواصم العالم المختلفة، لكن النتائج خيبته، وثبّط تعامل الرياض مع القضية بتصحيح الخطأ ومعالجة الثغرات الأمنية في أجهزتها الحكومية التي تسببت به ثم إحالة الملف إلى القضاء، كل الأوهام التي توخى أردوغان كسبها، وحافظت الرياض على هدوئها وانضباطها.
أنقرة أضحت عرضة لقائمة طويلة من العداوات في الخليج والقاهرة وباريس وواشنطن وموسكو، بسبب شهوة التدخل الهستيري التي اقترفتها في الآونة الأخيرة
حتى في أكثر لحظات أردوغان انفعالا، وهو يهدد باحتمال عدم وجود دول الخليج على الجغرافيا مستقبلا، وأن راية بلاده ستكون مغروزة فوقها، احتفظت الرياض ومن خلفها دول الخليج بهدوئها وثباتها في تجاوز هذه التصريحات الجوفاء، باستثناء قطر التي تقع فعليا رهينة لأنقرة منذ ثلاث سنوات.
أضحت أنقرة عرضة لقائمة طويلة من العداوات في الخليج والقاهرة وباريس وواشنطن وموسكو، بسبب شهوة التدخل الهستيري التي اقترفتها في الآونة الأخيرة.
ويُعتقد أن لوصول بايدن تأثيرا على تشجيع البلدين لإعادة النظر في طبيعة العلاقة بينهما، وهذا غير صحيح بمجمله، فقد تعودت الرياض أن تتعامل مع شخصيات رئاسية أميركية متفاوتة في درجة تفاهمها وتنسيقها على ملفات المنطقة.
ولوضع النقاط على الحروف، طرحت السعودية كل القضايا الملحّة على الطاولة مطالبة بالتعامل معها بوضوح وشفافية؛ فلا مانع من إعادة طرح الاتفاق النووي مع طهران إذا أخذت هواجس عواصم المنطقة في الاعتبار، ولا ضير بعلاقة كاملة مع دولة إسرائيل إذا روعيت حقوق الفلسطينيين الشرعية، ولا مانع من إنهاء الخلاف مع قطر إذا عولجت المخاوف الأمنية، ولا معنى لحرب اليمن إذا كفت جماعة الحوثي عن التغول على بقية شركائها في الوطن.
وأما إصلاح واقع الحقوق داخل البلدان فمرهون بحسابات داخلية ولا يمكن القبول بإملاءات الخارج أيا كان مصدرها.
وبعكسها، يعيش الرئيس التركي أردوغان في شبكة معقدة من الورطات التي توحلت فيها قدماه، في حوض المتوسط من سوريا إلى ليبيا امتدادا إلى العراق وقطر وأذربيجان، وحشد من الملفات التي أضعفت من صلابته الداخلية وأوهنت اقتصاده المحلي، واستغرق نتيجته في تصريحات صاخبة لتمرير أزماته والتغطية على أخطائه الفادحة وحساباته الخائبة.
تعيش المنطقة على كف عفريت، والرياض واحدة من دول الاعتدال ورعاة الدعوة إلى الاستقرار بوصفه أهم شروط التنمية والخروج بالمنطقة من مأزقها، وأن ذلك يتحقق وتقع مسؤوليته بالأساس على دول المنطقة المعنية، بخفض انبعاثات المشاريع الأيديولوجية والحد من أحلام التوسع التي انفتحت له شهية اللاعبين الإقليميين مع فورة “الربيع العربي”، وبالكف عن زرع الفتن التي انطلقت شرارتها بين دول المنطقة، مما جعلها عرضة لابتزاز القوى الدولية وتدخلها.
الآن، هل ستذهب العلاقة بين البلدين إلى أبعد من إعادتها إلى مسار التواصل الإيجابي ونبذ أسباب الخلاف المؤذي للطرفين، ليس ضروريا، فمسألة النظر إلى جماعة الإخوان المسلمين كواحدة من قضايا الخلاف بين البلدين مثلا، أضحت من وجهة نظر الرياض محسومة، بعد أن عززت مؤخرا من رفضها للجماعة ببيان هيئة كبار العلماء واعتبارها جماعة إرهابية وغير مؤهلة للعمل في الفضاء العام.
العلاقات الفاترة بين السعودية وتركيا هي أحد أعراض المرض الذي أصاب المنطقة عموما، وأن التشارك في إصلاحها جزء من واجبات عواصمها، والسعودية وتركيا تنتظرهما الكثير من القضايا والملفات التي تتعلق بالسياسة الخارجية
لذلك لا يمكن التعويل على بعض المواقف المتناثرة، رغم ما تحمله من دلالات ملفتة أحيانا، لبناء تصور نهائي عن مسار سياسي عرضة للتذبذب ولتأثير الأحداث الطارئة، ويبقى أن البلدين مهتمان بتطويق الخلاف ويحرصان على ألا يتوسع، وأن يظل في إطاره السياسي.
المقاطعة الشعبية التي اندلعت ضد المنتجات التركية كموقف عفوي ضد مواقف الرئيس أردوغان بحق السعودية، نفتها التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية السعودي، بل أظهرت بيانات الأحد الماضي زيادة قيمة واردات سعودية من تركيا في أغسطس مقارنة مع الشهر السابق، وفقا للهيئة العامة للإحصاء السعودية، مما يجعل تركيا تاسع أكبر مصدر للسعودية.
ولفهم الصورة كاملة، وبشكل أكثر موضوعية ومنطقية، يجب استيعاب أن العلاقات الفاترة بين السعودية وتركيا هي أحد أعراض المرض الذي أصاب المنطقة عموما، وأن التشارك في إصلاحها جزء من واجبات عواصمها، والسعودية وتركيا تنتظرهما الكثير من القضايا والملفات التي تتعلق بالسياسة الخارجية، والموقف من الجماعات الإسلامية، وأزمة قطر، والموقف التركي من مصر، ووسائل إعلام تنظيم الإخوان المسلمين الناشطة في تركيا، وبذلك فإن العراقيل لإصلاحها كثيرة وستستغرق وقتا أطول مما هو متوقع؛ وقت لا تنقصه المفاجآت غير المرغوب بها.
تعليقات
إرسال تعليق