دفعة جديدة في العلاقة بين السعودية والعراق شهدتها الأيام الماضية، شملت قمة جمعت بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، واجتماعات لمجلس التنسيق المشترك بين البلدين للجنة السياسية والأمنية والعسكرية، ووضع خطة لتسريع فتح منفذ عرعر الحدودي، وتقديم الدعم لافتتاح المُلحقية التجارية للسعودية في بغداد.
تصريح ولي العهد السعودي عن طبيعة العلاقة بين البلدين ووجهة نظر الرياض لتطويرها، وفي وقت سابق تصريح لافت ومهم لنائب وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، بأنه يتطلع أن يعود العراق أحد أعمدة العرب قويا ناهضا. مؤشرات قوية على أن السعودية متفائلة ومتحمسة لعودة العراق إلى وضعه الطبيعي، وتشجيعه على الخروج من ارتهانه المؤذي والسلبي لأي أجندات خارجية إقليمية ودولية.
ويبدو أن دورا أميركيا مهما يساعد في إنجاز العملية، وتفتيت العوائق التي يمكن أن تعرقل أي مجهود عربي وعراقي للتخفيف من وطأة ونفوذ التغلغل الإيراني، الذي وصل بالبلاد إلى طريق مسدود تماما، ولعل زيارة الكاظمي إلى واشنطن في يوليو الماضي، والحديث الهاتفي الذي جمعه بالأمير محمد بن سلمان قبل سويعات من وصوله إلى الولايات المتحدة، يعطيان مؤشرا على درجة التفاهم والتواصل بين الأطراف الثلاثة لإنجاح مساعي خروج العراق من قبضة النفوذ الإيراني.
لدى العراق فرصة ألا يكرر نموذج لبنان في علاقته مع دول الخليج والمحيط العربي، الذي خسر صفة الدولة بسبب تغلغل النفوذ الإيراني عبر وكلائه المخلصين
يحدث ذلك في ضوء حديث مسهب عن أدوار أكثر توسعا ومحورية تبديها الرياض في المنطقة لترتيب ظروف مرتقبة في الشرق الأوسط تشهد حضورا باهتا للولايات المتحدة، وتفاهمات بينية وثنائية بين العواصم الإقليمية لضمان الاستقرار وإرساء قواعد وشكل الواقع الجديد بتوازنات مبتكرة وجريئة.
الطريق أمام العراق طويل وشائك وملغوم بالتحديات لكنه غير مستحيل، يبدو الكاظمي مختلفا تقريبا، وصفته “واشنطن بوست” بالصادق في إصلاحاته، وهو رغم ما يعانيه من ضعف الظهير الشعبي والسياسي لأنه جاء دون قاعدة ينتمي إليها، لكن ما تغير داخل العراق منذ الانتفاضة الشعبية حقق له فرصة لارتكاب بعض ما تعتبره طهران تجاوزا على القواعد التي وضعتها لضمان بقاء العراق تحت نفوذها.
عملية تحقيق الخروج الكامل للعراق من الارتهان الخارجي عملية متكاملة، إذ تبدو إيران اليوم في أضعف حالاتها نتيجة سياسة الضغط القصوى عليها من واشنطن، انشغالها بشأنها الداخلي نتيجة إحباطاتها الاقتصادية والسياسية يخفف من تركيزها على العراق ويعطي مساحة وفرصة للتحرك بمنأى عن تأثيرها.
لكن الوكلاء المحليين والميليشيات التي وضعت لتبقى، تحمل خارطة عمل جاهزة لعرقلة أي تقارب للعراق مع محيطه العربي، كما بدأ التشويش على روح العلاقات بين بغداد والرياض من المحسوبين على قطر، واندلعت حفلات تثبيط هذا التواصل بين الجانبين وتفعيل بنود التفاهم.
وقال مصطفى الكاظمي قبل أيام، إن “هناك حملات تشكيك بأي تقارب للعراق مع أي دولة، ترافقها شائعات تهدف لخلط الأوراق وتعطيل أي تفاهم يصب في صالح البلد”.
وفي الداخل هاجم رئيس الوزراء الأسبق للعراق نوري المالكي السعودية، وحرض على تعطيل الاستثمار الزراعي السعودي في العراق.
المالكي وهو أحد أمناء الإرث الإيراني في بغداد لن يكون سعيدا بزيادة منسوب العلاقة بين العراق وجواره العربي، وفيما يبدو أنه محاولة لاستعادة حظوظه السياسية بمغازلة طهران، جدد التزامه بقواعد اللعبة على الطريقة الإيرانية بمهاجمة إسرائيل كلاميا، والتشديد على عدم حل ميليشيات الحشد الشعبي، وأخيرا بالتقليل من قيمة التقارب مع السعودية.
يعاني العراق بقسوة من الأعباء الاقتصادية، الأمر الذي هدد بإفلاس الحكومة وإفراغ خزينتها. وقدمت الانتفاضة الشعبية زخما هائلا لفك علاقة بلادها مع إيران. طهران هي الأخرى انطوت على مشكلاتها الداخلية ووهنها الاقتصادي والسياسي وضعف انخراطها في الشأن العراقي، إلا من وكلاء يحافظون على خطوطها الحمراء.
الجوار الخليجي والعربي يرغب في تقديم العون في ظل هذه التركيبة المعقدة من الظروف، خاصة إذا لمست نوايا طيبة وصادقة وجادة من أطراف الحكومة القائمة، وهذا ما انعكس على خطة الرياض الطموحة في تطوير علاقتها مع العراق عبر حقيبة استثمارات تضم أكثر من ستة آلاف مشروع، وبقيمة 100 مليار دولار.
لكن، لن يحدث هذا بشيك مفتوح على بياض، وعلى العراق أن يعلم أن دول الخليج لن تقدم حبل نجاة لمتاعبه المالية والاقتصادية، دون أي التزامات سياسية.
الوكلاء المحليين والميليشيات التي وضعت لتبقى، تحمل خارطة عمل جاهزة لعرقلة أي تقارب للعراق مع محيطه العربي، كما بدأ التشويش على روح العلاقات بين بغداد والرياض من المحسوبين على قطر
لدى العراق فرصة ألا يكرر نموذج لبنان في علاقته مع دول الخليج والمحيط العربي، الذي خسر صفة الدولة بسبب تغلغل النفوذ الإيراني عبر وكلائه المخلصين، فانسحبت اليد التي طالما كانت ممدودة لبيروت. حتى في أحلك ظروفه خسر لبنان المنقذ التقليدي والتلقائي في أزماته، حتى أوشك أن يتحول إلى دولة فاشلة.
مواجهة الفساد المستشري والضارب بجذوره في أعماق الحكومة العراقية مهمة لفعالية هذا الإقبال السعودي والعربي على الاستثمار في العراق، لأن تفشي الفساد يحبط هذه الجهود ويشل قدرتها على التأثير الإيجابي.
وأخيرا لا يمكن أن يستمر الخليج العربي في تلقي مواقف سياسية وأمنية سلبية تنطلق من الأراضي العراقية دون أن يترك ذلك تأثيرا على طبيعة العلاقة واستمرار شبكة الدعم والاستثمار والانطباع الإيجابي، لا يعني ذلك نقل العراق إلى خانة التابع السياسي للعواصم الخليجية، ولكن المساعدة في تحقيق وصفة نافعة وبدرجة أقل من الارتهان للخارج هو أفضل طريق للخروج بالعراق من نفق التردد والشك والقلق.
تعليقات
إرسال تعليق