إن سعودية شجاعة يضر بها إعلام خوّار، وتعود مسؤولية ذلك إلى انعدام إستراتيجية جديدة في الطرح الإعلامي الذي يأخذ بعين الاعتبار التحولات الشعبية منذ ثماني سنوات.
الأربعاء 2018/10/24
تواجه المملكة العربية السعودية منذ اختارت طريقها للتغيير حملة إعلامية منظمة لتثبيط عزمها، والفتّ في همة قيادتها وشعبها لمواصلة دأبها نحو تحقيق المأمول الذي ترسم للوصول إليه.
جزء من تلك المواجهة الشرسة وربما الجزء الأكبر يأتي صنيع دولة مجاورة نذرت إمكاناتها وثرواتها لبخس حق السعودية في قيادة مشروع إعادة ترتيب المنطقة، الذي يستهدف ضمن تفاصيله مقاومة مشروع طالما صرفت من أجله تلك الدولة الأموال والطاقات، ولكن بفعل قرار مصيري وتاريخي اتخذته الرياض وبقية العواصم العربية الدائرة في فلكها، توقف ذلك المشروع وانسحب من منطقة الهجوم إلى خانة الدفاع والاستماتة.
لقد عمل الإعلام المضاد بإستراتيجية مزدوجة، فبالإضافة إلى صياغة خطاب يدغدغ مشاعر الشعوب ويغريها وينفذ إلى عواطفها، كان ينفث سمومه لتسفيه إعلام السعودية، يشوه مؤسساتها وأشخاصها، يتهمها بالتصهين وتبني أجندة الغرب، وذلك لخلق مسافة من عدم الثقة مع الناس يستطيع عبرها بناء تماثيل التأثير التي يوظفها لفرض أيديولوجيته ومشروعه الحالم.
استطاع مشغلو الإعلام المضاد من الإخوان وفلول اليسار عبر هذين المسارين خلق فراغ لا يملؤه إلا خطاب معسول صنع خصيصا لاستدرار اهتمام الشعوب المستهدفة واستقصادها بالرسائل الملغومة وغير المفهومة. أبطلت السعودية بضربة قاضية مفعول هذا الاختراق، وبقي أن تبني منظومتها الذاتية المؤثرة.
سعودية جديدة ينشدها مؤسس المرحلة الجديدة وقرابة 70 بالمئة من الشعب هم الشباب. تكاد تأتي هذه المرحلة على كل شيء وتعيد صياغته على نحو مختلف ومغاير، العشرات من الملفات التي كانت إما مؤجلة وإما مواربة أغلقت بنتيجة ما، وبدا وكأن السعودية ماضية بلا هوادة إلى حيث قدرها الجميل الذي اختارته وستقاتل من أجله.
فجأة ودون سابق إنذار، وقع خطأ ما، تمثل في انحراف عملية أمنية لاحتواء الصحافي السعودي ذائع الصيت جمال خاشقجي إلى فاجعة على المستوى الإنساني والسياسي. أعطت الأزمة غير المتوقعة فرصة كبيرة لانتعاش الإعلام المضاد، وقد ظهر وكأنه مستعد جيدا لتنظيم عملية انتقامية لتشويه صورة السعودية وهي على مشارف واحدة من أكثر مفاصل بناء مستقبلها المنشود.
مبادرة دافوس الصحراء الاستثمارية تعقد عليها الكثير من آمال البناء واستقطاب الدعم الاقتصادي واللوجستي لتعزيز سعودية المستقبل. كان حدث المبادرة معقوداً في أحشاء الهجوم الهستيري الذي انفلت لمخاصمة الرياض أمام حادثة جنائية يحتاج الكشف عن تفاصيلها بعض الوقت، لكن أحدا لم يكن مستعدا للانتظار قبل أن يقتطف لحظته المناسبة لغرز مخالبه غير الأخلاقية.
كانت الهجمة شرسة وواسعة ومنظمة، لا وقت للتمهّل، الإعلام الموجه من العاصمة المتمردة يكثف من سهامه ليزيد وقعها، ورغم هشاشة طرحه وانكشاف قصده، نجح في إثارة زوبعة تدعمه مواقف غربية يغلب عليها التعجل واستهداف شيء ما. ضاعف من ذلك الارتباك الذي وقعت فيه كل الأدوات الإعلامية المحسوبة على السعودية.
لدى السعودية تحديات جسيمة في المستقبل، وليست حادثة أكتوبر سوى اختبار ضمن خارطة واسعة من المحكات التي تواجه كل نية للتغيير وصناعة التأثير
لم يكن الارتباك فقط ضعفا في قدرة الوسائل على الوصول والتأثير، وليس مجرد فقدان المعلومة البحتة لأنها ليست ميدان المنازلة الحقيقي في هذه الحالة بالتحديد، لكنه ارتباك أقرب لفشل منظومة كاملة.
لقد تبدّى لدى المتخصصين بالتحديد، أن هناك فجوة واسعة وهوّة كبيرة بين ما تطمح السعودية للوصول إليه من بناء عهد تنموي رشيد، يواجه كل بنى التشدد والفساد، ووقف هدر الاستقرار الذي يحيق بالمنطقة، ويحرك ساعة التنمية المتوقفة منذ عقود في المنطقة الأكثر تشظيا من العالم، وتحويل مسافات التأخر فيها إلى واحات حضارية متقدمة، بسرعة إنجاز غير مسبوقة وأدوات محاسبة حقيقية ومؤثرة.
أمام كل هذا الانقلاب الضخم في واقع الدولة الأكثر محورية في الشرق الأوسط، بقي الإعلام حبيس لحظة ماضوية. إعلام رد الفعل وليس المبادرة، إعلام انتظار التعليمات والتوجيهات من سلطة أعلى تعطيه الحيز الذي يتحرك فيه دون حدوث مشكلات أو إغضاب أحد ما.
عقلية متوقفة عند نقطة ما دون استجابة حقيقية لظروف المرحلة المنشودة، مشدودة إلى زمن القرابين لا المضامين.
إن سعودية شجاعة يضرّ بها إعلام خوّار، وتعود مسؤولية ذلك إلى انعدام إستراتيجية جديدة في الطرح الإعلامي، الذي يأخذ بعين الاعتبار كل المفردات الجديدة التي أرستها التحولات الشعبية منذ ثماني سنوات، لا يمكن إنكار أن شيئا ما تغير أو تزحزح في وجدان شعوب المنطقة وإيقاع تفكيرها، وهذا يعني أن نحرك من طبيعة الطرح الإعلامي بما يتسق وما بلغه الحال دون غمغمة أو اجترار لغة زمن مضى.
لدى السعودية في مشروعها الكبير وجاهة حقيقية، ينبغي طرحها بجرأة وشجاعة، لا تقل عن تلك الدعيّة التي يتبناها طرف ما لمجرد القفز على سدة النفوذ والحكم، ما يستوجب أمام ذلك إصلاح متلازمة الحرية والمرونة بما يكفي لجعل الطرح أكثر مصداقية ومزامنة لمستوى المتلقي الجديد الذي اغتسل ببارد السنوات القليلة الماضية.
لدى السعودية تحديات جسيمة في المستقبل، وليست حادثة أكتوبر سوى اختبار ضمن خارطة واسعة من المحكات التي تواجه كل نية للتغيير وصناعة التأثير. هل سيبقى الخطاب الإعلامي مهلهلا بهذا الشكل، ويكتفي بخطاب محلي يتحدث إلى نفسه، وتغذيه الجهود الفردية المبعثرة دون ناظم استراتيجي يعبّر بجسارة، ويقدم رواية متماسكة عن لغة المرحلة التي تتبناها السعودية وتقود بها منطقة متعطشة لدور الرياض المرتقب والمأمول.
لعلنا نحتاج أمام هذا الدرس المجاني أن نتوقف لبرهة مراجعة، واغتنام فرصة إعادة بناء المنظومة الإعلامية على هدي التحولات الجديدة.
منظومة مؤهلة لاستيعاب النقد، ودرجة مقبولة من المعارضة بديلا عن إبداء رواية الذوبان التوافقي التي لم تعد مقنعة ولا مؤثرة، وتهشّم صورة شجاعة الاستماع إلى الذات.
معالجة تعيد الثقة إلى الوسيلة السعودية عبر المسؤول السعودي، أولا، الذي فضّل لفترات طويلة أن يمنح امتيازه للأجنبي لزيادة موثوقية وصدقية حديثه ورسائله، بينما يضاعف من غربة وعزلة أدواته المحلية.
تؤثث المنظومة المبتكرة بتقنيات الحديث الأكثر تقدما وجاذبية في مخاطبة عقلية جديدة صنعتها التحولات الأخيرة. حديث أكثر تعددا، غير مأزوم بالارتياب والنبذ تجاه بقية الآراء العالية الحساسية، يتخفف من مبالغات الوطنية التي قد تضر وتؤسس لحالة تزلف مرضية تضيء واجهات الخطاب وتطفئ فعاليته.
الرابط : https://alarab.co.uk/%D8%B3%D8%B9%D
تعليقات
إرسال تعليق