عُقدت مجالس تنسيق على أعلى مستوى بين السعودية من جهة وعدد من الدول الخليجية كل على حدة، وربما تكون لغة الاستعاضة المستقبلية أمام تحول عالمي لاتفاقيات ثنائية بدلا من التكتلات التقليدية.
الاثنين 2018/12/10
وكأن الرياض أرادت عبر القمة الخليجية التي تستضيفها والاهتمام الذي أبدته في تنظيمها ومواكبتها، أن تقول كلمة الفصل في مستقبل هذا الكيان والتكهنات التي انهالت عن جدوى استمراره واستقراره، وقد شدد على ذلك العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز في كلمته لافتتاح أعمال القمة وحرصه على صيانة كيان مجلس التعاون لدول الخليج العربي.
كانت إشارة الملك سلمان الافتتاحية عنوانا للتفاصيل التي توسع فيها أمير دولة الكويت عبر كلمته التي دعا فيها إلى وقف الحملات الإعلامية كمقدمة لتهيئة الأجواء لحل الخلاف بين الدول الأعضاء.
محاولات قطر لتهميش القمة لأنها تعقد في الرياض، لا تخرج عن صميم دورها الذي لعبته منذ عقود لخفض فعالية كل فرص الخروج بالمنطقة من احتباساتها السياسية، واستثمارها في صالح الأجندة التي نُذرت لها الأموال والطاقات وارتهنت في سبيلها لعواصم تناصب العداء لأي حضور عربي نزيه ويغلّب صالح الأمة، وما نشأ قرار مقاطعة الرباعي العربي إلا نتيجة لهذا الأداء القطري المشبوه.
وقد زادت الدوحة من كلفة المصالحة، ووسعت من الشقة التي تفاقمت بين الطرفين ولا تشجع على إنهاء الأزمة، كان آخرها الأداء القطري المحرّض في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، إذ ضخت الدوحة الكثير من الجهد والمال والطاقة لتشويه السعودية، ومهاجمة قيادتها والنفخ في نار الخلاف المتقد دون هدوء.
الأمر الذي وصفه وزير الخارجية البحريني الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة بأنه خلاف عميق جدا وصل إلى نقطة لم يسبق أن وصلها خلاف آخر بين الدول الأعضاء في المجلس، وقال الشيخ خالد في حديث صحافي إن قطر في هذا الخلاف أحرقت جميع سفن العودة إلى المجلس، ودعا إلى اتفاق جديد ونظام جديد ووضع الدوحة تحت المجهر.
على كل حال، إذا لم تجمع زعماء الخليج الأعراف والتقاليد الراسخة التي يختلط فيها الاجتماعي بالسياسي، وعجزت ظروف الكيان الخليجي الداخلية عن تحقيق التئام كامل لأقطابه، فإن التحديات المريرة التي تضع دول الخليج على المحك، ربما تجمعهم إلى حد ما وتضطرهم للجلوس على طاولة النقاش للتعاطي مع الاستحقاقات والملفات المختلفة التي تتطلّب إنجازها والبتّ بشأنها، مع أقل توقع بأن تفتح القمة نافذة عمل جديدة لجهود أمير الكويت في تنفيذ أو تمرير المصالحة المستبعدة في ظل تعنّت الدوحة القبول بالشروط التي أعلنت كل من البحرين ومصر تجديدها، بعد أن توهمت الأوساط القطرية ليونة في الموقف جراء توجيه دعوة رسمية بروتوكولية للشيخ تميم بحضور قمة الرياض.
وفي ظل الضعف الذي لا يمكن تجاهله في كيان وبنيان المجلس الخليجي، تتنامى جهود ثنائية لبناء أحلاف استراتيجية بينية، إذ عُقدت مجالس تنسيق على أعلى مستوى بين السعودية من جهة وعدد من الدول الخليجية كل على حدة، الأمر الذي يبدو أكثر فعالية وحيوية، وربما تكون لغة الاستعاضة المستقبلية أمام تحول عالمي لاتفاقيات ثنائية بدلاً من اتحادات داخل التكتلات التقليدية.
كانت الرياض تحلم أن ترى الكيان الخليجي يتجاوز مرحلة “التعاون” ويبدأ بمرحلة “الاتحاد”، وقد أعلن الملك عبدالله في إحدى القمم المفصلية في تاريخ المنطقة، عن أمنياته ومن ورائه كل شعوب الخليج بأن يرى من قياداته وزعمائه تسامياً حقيقياً على الخلافات الهامشية أمام حلم الكيان الموحد في ظل تحديات المستقبل التي أخذت تكشف عن حدّتها كلما مضى الوقت.
لكن الخلافات وتضاد الحسابات كانت تثبط تلك الدعوات وتزيد من صعوبة تحقيقها، سيما وأن المنطقة، عموما، كانت تتعرض لأكثر مراحلها قتامة وسوداوية، شهدت خلالها انسحاب الكثير من العواصم العربية من المشهد، وتراجع فعالية الجامعة العربية عن إبداء أي تصرف يشير إلى بعض حياة تنبض في عروقها.
غير أن الكيان الخليجي، بدلاً عن أن يكون الواحة الأخيرة والملاذ الوحيد من صيف العرب القائظ، تعرض هو الآخر لامتحان صعب وتحدّ خطير، نتج عن تضاد المواقف في وجه الكثير من ملفات المنطقة واستحقاقاتها، فضلاً عن الثغرة القطرية التي أخذت تتسع على الرقع، وأصبحت فكرة “الاتحاد” أكثر صعوبة وتعقيداً من أي وقت سابق.
ما يعصف بالكيان الخليجي لا يمكن فصله عن هشاشة الواقع العربي عموماً، إذ بقيت أحداثه وتقلباته خلال الثماني سنوات الماضية ترمي بحممها على دول الخليج مجتمعة، ومسألة النأي بها عن ما يحل في محيطها من عواصف يعدّ ضربا من المستحيل، إذ لعبت عواصم خليجية دوراً أكبر وغير مسبوق في المرحلة الراهنة اضطرارا أو اختيارا، الأمر الذي ترك بعض الأثر على طبيعة علاقاتها الثنائية.
ومع ذلك، هناك ما يستوجب الإبقاء على المجلس ولو بشكل جزئي، نتيجة الأدوار المنتظرة من بعض دوله لمواجهة تحديات ملحّة ترتقبها المنطقة، كما أن بعض القوى الدولية يعوزها دور خليجي أوسع في المستقبل، لإصلاح الخلل الذي يصيب اليمن والعراق ومصر وليبيا وسوريا ولبنان وفلسطين، هناك الكثير من العواصم العربية والإقليمية تتعطش لدور خليجي يلتقطها من وهن الواقع إلى بصيص أمل منشود.
كما كثفت الولايات المتحدة ضغوطها على الأطراف الخليجية لتحقيق أدنى مستوى من التوافق، على الأقل في إطار سعي واشنطن إلى تشكيل جبهة إقليمية موحدة ضد إيران.
ولا ينفصل هذا عن أطماع أنقرة في المنطقة التي كشرت عن أنيابها في أراضي شمال العراق وسوريا، وهجمة منظمة ضد ولي العهد السعودي على خلفية مقتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول.
على بُعد عام من اكتمال العقد الرابع لهذا الكيان الخليجي وهو يقف على حافة لحظة مصيرية من تاريخه، يسترجع الكثير ساعة إعلان الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي الراحل في العام 1981 اتفاق إنشاء مجلس التعاون الخليجي، وكان أحد أهدافه الاتحاد لمواجهة الأخطار ومنها صعود الخميني إلى سدة الحكم في إيران وانتهاج تصدير الثورة.
لا تبدو الظروف اليوم أفضل حالا ولا أصح مآلا من تلك اللحظة المؤثثة بالمخاوف والتوجسات، والبوابة القطرية الآن مشرعة لدخول رياح الهزيمة إلى قلب هذا الكيان، ولا يُعرف إذا كانت هناك نية لسدّ هذا الباب عنوة أو سلاماً.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق