التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تنامي الحرية




تنامي الحرية

النفوس التي تستنبت في أرض الحرية لا تشبه تلك التي تولد ذابلة على ثرى الاستعباد ، فهي أكثر نضارة وألقاً ، تستمد من شمس الحق قوتها ومن ماء العدل سقاءها ، يرعاها نظام المساواة ويتعهدها ويطيل من عمرها ، وهي أمنع ما تكون عن الاستذلال أو الاستجداء ، فيها من الأنفة ما يعطيها الصبر والشمم وينضجها لمواجهة التحديات والصعاب ، تنشط إذا رأت مظلوماً ولا تنكسر في وجه طاغية . 
بخلافها تلك النفوس التي عاشت تحت نير الدكتاتورية ، فإنها خاضعة خانعة باختيارها ، ترى في العدل بخساً للأكابر وتطاولاً من الصغار ، وفي الحق فتنة تجر إلى الدماء والفناء وشغباً يضجّ في أذن الاستقرار والسكينة ، نفوس ترعرعت في بطن الخوف وتورمت من طول الرقاد على فرش ممدودة من الاستكانة ، تنقم على التغيير لأنه يشق عليها ويكلفها رهقاً .
وهذا يبدو واضحاً في قصة بلال الحبشي الذي خلع بإسلامه ربقة العبودية بمعناها الضيق ، وانسجم في عبودية كونية مركزها توحيد الله عز وجل ، ودونها كل البشر أسيادهم وعبيدهم ، كبيرهم وصغيرهم ، إنها الحرية التي أشربها عذبة صافية من نمير القرآن الكريم الذي يزن الكون بموازين القسط والعدل والمعروف ، أخذت كل الأشياء حجمها الطبيعي في ذهن هذا المنعتق من طقوس الجاهلية والمنغمس في نورانية العهد الجديد .
أصبحت نفسه كريمة حرة أبية ، فيها من الأنفة ما يجعله يتحمل في سبيل الحق وكلمة الله أسواط المغرورين بقوتهم الكرتونية وظلمتهم الجاهلية وبطشهم القاصر وعجزهم المتفاقم ، انهارت لدى بلال وأصحابه فكرة العبودية المتسلحة بجيوش الجهل والخوف والسائد ، وشاد فيه الإسلام بنى الحق وأرسى دعائم العدل وأوثق عرى الحرية ، فكان له الخلود في مقدمة الرجال باسم المساواة ، يا لجلال الثورة التي صنعها الإسلام في صدر تاريخه العظيم .


وكذا الفكرة التي تنمو في فضاء الحرية المتعافي من سموم الاستبداد والفساد ، فإنها تتكون من جنينية الأنفة والإباء وتذهب إلى أقصى حدود القدرة المتناهية لها في الأثر والتأثير ، تتمخض مكنوناتها عن خيرية تنعم بها البشرية آماداً طويلة كتلك الأفكار التي تدفعها الحاجة أو الألم فإنها تمد في عمر الدنيا وتوقظ الكون وتشرق في فضاء البشرية .
وبئست الأفكار تلك التي تولد خديجاً في حضن الاستضعاف والاستعباد فإنها لا تقوى على العيش إلا في أذهان الضعفاء والخائرين وتتطفل على موائد البذخ السلطاني وتتسول عند عتبات الطغاة الظالمين ، وإن بدت في أزمنة القهر سيدة المكان وناصية الزمان فإنها تتهاوى عند لحظة فارقة من بزوغ الحق وجلاء الحقيقة ، تتآكل تحت ضغط الظلم ، تذوب أمام حرارة المنطق ، وتنهار إلى حيث لا رجعة ولا دوام إلا للحق والمنطق والعدل .
ولذا كانت فضاءات الحرية والعدل والقانون منتجة أكثر من أركان الظلم وأوطان القهر والاستعباد . تبدو الأفكار العظيمة في حضرة " السائد " غير مريحة وباعثة على الاستنكار وفوق بلاط الاستعباد خروجاً على النظام وتطاولاً على جناب السلطان .
وفي فضاء الحرية ، تكون الأفكار خلاّقة وطاهرة من درن المسايرة ، تقع على أرض قرار من التوافق والانسجام ، يتأصل نبتها في ثرى الخصب وتورق في علياء الفضيلة شجرة تستظلها البشرية وتنعم بثمرها وطلعها وخيرها .
جاء الإسلام مثل فكرة وصمت بكل نعوت الاستنقاص والتشويه ، ثار غضب التقليديين وحماة الهياكل البالية ، استفزت عقول المجتمع الذي أورث قيماً نبيلة إلى جانب أخرى لا تستقيم مع الأفق الذي يذهب إليه الإسلام ، فأبقى النبي الكريم على حزمة المبادئ الشريفة والأخلاق الشفيفة ووسّع من أثرها وبعث فيها روحاً من أمر الله ، ومحى تلك التي تؤسس للباطل وتدحض الحق ، أهال تراباً على فجوات الثأر الانتقامي والطبقية المجحفة والظلم والاستعباد وأحل بدلاً عنها قيماً بناءة وأخلاقاً وضاءة .
بعض القيم والأفكار والمبادئ كلما أمعنت في استجلاء جوهرها ما زادك ذلك إلا خيراً وبشراً ونماء ، وبعضها كلما أوغلت في مكنوناتها وبسط مكتنزاتها زادك الله خيبة وذلة وانهزاماً .
الحرية مع ضابطها من العقل المنطقي والشرع الحنيف والفطرة الصافية لا تأتي إلا بخير ، فضاء خلّاق ، وإمكانية مطردة ، الحرية بناء متكامل من الثقة والتجدد والثبات ، وكلما ظننت بها النهاية جهرتك بآماد جديدة ومساحات رحبة من التمكين والتنامي والتسامي الحكيم .
بعكسها بعض مسائل الطاعة والانضباط الهيكلي التي تحتكر مهام الإنتاج والتنمية ، وتخنق قدرات الشعوب والمجتمعات على الابتكار والازدهار ، إنها تخلق عاهات دينية تعيد هيكلة المؤسسات وصياغة الخطابات باعتساف الأدلة ، وتنتج مجتمعاً مرهوباً من التقدم وطقساً بوليسياً قاتماً وجاثماً على أنفاس الإبداع .
بعض القيم يؤمن جانبها ولا يخشى من توحشها أو انفلاتها وذوبانها ، وخير من ذلك كله ، أن تعمل المجتمعات الجادة والمتحضرة على تجسيدها في هياكل قانونية ودستورية تضبط حالتها السائلة وتحميها من جهة دوامها وتحمي المجتمع من جهة آثارها الجانبية واستفحالها وإمكانية استغلالها .




الرابط :

http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-42-201269.htm

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم،...

ماذا يخطر في بالك ( 5 ) ؟

هنا أنقل بعضاً من منشوراتي على صفحتي في ( الفيس بوك ) . راجياً لكم النفع والفائدة  . ضعف التقدير يقود إلى سوء التقرير . .................. كلما كان واقعك ثرياً وغنياً ، بارت بضاعة خيالك الواهم . …………… إذا أحببت شيئاً ثم التقيت به بعد غياب فكأن الروح ردت إليك بعد غيبة الموت ، أو العقل عاد بعد جنون ، أو الذاكرة استفاقت بعد غيبة . كل الأشياء الرمادية تسترجع ألوانها الزاهية ، والروائح الزاكية تستجرّ عنفوانها ، والمشاعر اللذيذة تستعيد عافيتها . ما يفعله الشوق بك من ذهاب العقل وغيبة الذاكرة وموات الروح ، يفعل بك الوصل أضعافه من الفرح والطرب والنشوة . لقد جُبل هذا القلب على الإلف بما يحبه والتعلق به حتى يكون بمثابة الطاقة الموصولة بألياف الكهرباء ، أو الزيت الذي يقدح النور ، والجمر الذي يستفز أعواد البخور . وإذا غاب المحبوب واستبد بك الشوق انطفأ نور الوجه وضاقت النفس وذهب الفرح حتى يعرف ذلك في حدة طبعك وانغلاق عقلك وعبوس وجهك ، فإذا التقى المحبوبان والتأم القلب عادت المياه لمجاريها وشعشع الوجه واتسع الثغر وانفرجت الأسارير . سبحان من خلق . ……………… إذا كنت...