نشر في : الجمعة 22 أغسطس 2014 - 12:29 م | آخر تحديث : الجمعة 22 أغسطس 2014 - 12:29 م
رغم كل الجهد المبذول منذ عقود لمعالجة ظاهرة الإرهاب في الشرق الأوسط على كافة المستويات العسكرية والإعلامية واللوجستية، تأتي “داعش” فجأة في عرض الطريق لتهدم كل ذلك البنيان بضغطة زر تفجر الأوضاع وتعيد الأحوال إلى نقطتها الأولى، وربما أبعد من ذلك وأبشع مما سبق.
داعش منذ إعلانها ومروراً بكل مراحلها المفصلية وحتى تنصيب أميرها خليفة للمسلمين كما يزعمون، تشكل لغزاً تختلط فيه الأصابع المخابراتية والإرث الفكري العقدي والخيبات السياسية. يقدر تعداد المنظمين إلى صفوف داعش بقرابة الخمسين ألف مقاتل من جنسيات وأعراق مختلفة يسيطرون على مناطق واسعة تشمل دولتين عربيتين وتملك رؤوس أموال طائلة إلى جانب موارد يومية تقدر بالملايين .
داعش لا تبدو وكأنها بناء صفري جاء نتيجة وضع مؤقت، ولكنه تراكم زمني ومادي لنقطة تاريخية قديمة، مظلومية ما، لم تفككها قوى المجابهة الدولية، وتركت الإرهاب ينمو بشكل مضطرد، وكل دعاوى قطع دابره وتفتيت نشاطاته لا يبدو أنها تكتسب صدقية وجدوى أمام هذا التطور الواضح على المسارات العنفية التي تنتهجها جماعات الخلاص السياسي .
جبهة النصرة تجسد صورة الإرهاب بالمفهوم الدولي والمقاييس الأمريكية، وهي نتاج وضع طارئ تمارس معها القوى الدولية والإقليمية نفس مستوى التعامل التقليدي لتفكيكها والقضاء عليها، ولكن لا يبدو هذا نافعًا بالنظر إلى النسخة الجديدة من قاعدة العراق القديمة التي تحولت من دولة متوهمة إلى أمر واقع وعلى مساحة جغرافية كبيرة وتمارس جرائمها المروعة بحق الإنسانية دون رادع أو ضابط .
استمرار التجاهل لما يقوم به بشار الأسد والتباطؤ في تسليح المعارضة المسلحة المعتدلة بينما يسرف النظام السوري في سفك دماء الشعب الأعزل، وفي المقابل جاءت محاولات الالتفاف على مطالب الثورة وحشد الإرادة الدولية للقضاء على المعارضة المتشددة ومواجهة الجماعات التكفيرية بمثابة الزيت الذي صب في نار الحقد التاريخي على ازدواجية معايير القوى الكبرى وفساد الأنظمة القائمة وخلق مبررات جديدة للانخراط في جماعات العنف الديني وزاد من شعبيتها ودفعها لمزيد من التوحش والاستفزاز .
يبدو الوضع الذي تعيشه داعش والقصص التي تدور حولها أقرب لمشهد سينمائي شديد الحبكة، وأن لعبة سياسية دولية قد تجري وراء ذلك، ولكن لماذا يجد خطاب المتشدد الذي ذهب إلى أقصى مستوياته شعبية لدى قطاعات واسعة من الشباب بدليل تعداد المنخرطين في صفوف داعش والحراك المؤيد لها على شبكات التواصل الافتراضي؟
ولماذا نشهد حالة من التطور المستمر لحالة الإرهاب وتنامي الظاهرة وميليشياتها المتفرقة؟ وكأن لاعباً سياسياً يريد لهذا الوضع أن يستمر؟
إن ظاهرة داعش التي تجاوزت انغلاق القاعدة ومنطلقاتها الراديكالية إلى مستوى غير مسبوق من العنف الدموي والمفاصلة العقدية والتشدد، تستدعي محاكمة جادة لأساليب المعالجة التقليدية ومحاسبة التاريخ ومراجعة البنية الفكرية والثقافية التي تمول هذه الظاهرة وتمنحها الأرضية الخصبة لإنتاج الأنصار والأتباع والمتشبعين بأحلامها وأفكارها .
بمقدورك مطالعة مقاطع الفيديو التي تنتج باحترافية وتأتي في سياق الدعاية المكثفة لاكتساب التأييد وحشد المبررات وتسويق التنظيم بوصفه نهاية آمال الطامحين لتحقيق العدالة التي يتعطش لها المسلمون واستعادة الحق المغتصب وسوى ذلك من الجمل والعبارات التي تدغدغ القلوب وتسترعي العقول المسلمة الشابة والمتطلعة إلى أفق جديد يطوي صفحة جيل من الخيبة والانهزام والتخلف .
يعيش الشاب المسلم مرحلة من القلق النفسي والعقدي بين واقع ينزف من الاحتقان السياسي الحاد والتخلف على كافة مستويات التنمية، وبين ضيق الخيارات السياسية المتاحة وانسداد أفق للحلول، يطالع بمزيد من الأسى أحوال العالم العربي والإسلامي وهي تقع في أسر متتالية من الانكسار والتشرذم والتخلف، فضلاً عن الظلم الواقع على الأقليات المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها في ظل التجاهل الدولي وإحجام الأنظمة المحلية عن القيام بأبسط أدوارها .
وفي ظل أنظمة سياسية لا تؤمن بأدنى حدود المشاركة السياسية لشعوبها، يأتي تنظيم داعش وسواها كفكرة حتمية للخلاص من هذا الوضع المزري .
عندما قامت ثورات الربيع العربي خسر تنظيم القاعدة ومن يأتي على منواله المبرر لقيامه، بدأت فاعليته تتلاشي وشعبيته تتهاوى أمام الخيار السلمي للتغيير، حاولت القاعدة عبر رسائل أميرها الظواهري أن تتلطف إلى الشعوب وتذكرها بقطعيات القاعدة التقليدية، ولكن الشعوب لم تلتفت إليه وذهبت في عفويتها وخيارها السلمي لإحلال الديمقراطية محل الاستبداد وأصبحت القاعدة وكأنها تلفظ أنفاسها .
عندما قامت ثورات الربيع العربي خسر تنظيم القاعدة ومن يأتي على منواله المبرر لقيامه، بدأت فاعليته تتلاشي وشعبيته تتهاوى أمام الخيار السلمي للتغيير، حاولت القاعدة عبر رسائل أميرها الظواهري أن تتلطف إلى الشعوب وتذكرها بقطعيات القاعدة التقليدية، ولكن الشعوب لم تلتفت إليه وذهبت في عفويتها وخيارها السلمي لإحلال الديمقراطية محل الاستبداد وأصبحت القاعدة وكأنها تلفظ أنفاسها .
فجأة، استيقظ مارد الثورة المضادة وأعاد خلط الأوراق وحاول استرجاع الترتيب القديم لسياسة المنطقة ونفض الفكر القاعدي عنه رماد الماضوية واشتعل من جديد، يبدو وكأن عسكرة بعض الثورات مبرر مقنع للبعض لدفع الفكر المتشدد إلى الواجهة من جديد، ولكن تهاوي فكرة الخيارات السلمية والديمقراطية تحت أقدام الثورة المضادة كان السبب الأكثر واقعية وموضوعية لبعث الروح من جديد في جسد القاعدة والخيارات العنفية .
ولكن العودة الآن أكثر تشدداً ودموية وقد أصبحت القناعة أكثر صلابة بازدواجية المعايير الدولية وحيلولة الأنظمة القائمة عن بلوغ الشعوب إلى توافقاتها السياسية العادلة، جاءت العودة في ثوب داعشي ودبغت جلود المقاتلين هذه المرة بالمرارة المضاعفة.
وتضاعف الكفر بالديمقراطية والخيارات المدنية وكل الثقافات الأخرى، وأصبح تحكيم الشرع مطلباً مقدساً تجز دونه الرقاب وتزهق الأرواح وتشرد الأقليات وتطارد الجماعات وتلغى الحدود… وتقوم الخلافة ويبسط الخليفة سيطرته على كل شبر وجسد تصل إليه أقدام رجاله المسلحين .
تواجه شعوب المنطقة ضعفاً في الإشباع السياسي، فحجم الفجوة الفاصلة بين إرادة الشعب وسلوك النظام تتسع مع كل تحدٍ إقليميّ أو محليّ، مستوى الثقة بين الطرفين لا يعيش بحالة طيبة، كما أن الملفات العالقة كقضية فلسطين وجراح الثورات المفتوحة دون إبداء رد فعل كافٍ من الحكومات المحيطة يضاعف من الحمولة السياسية عليها.
تواجه شعوب المنطقة ضعفاً في الإشباع السياسي، فحجم الفجوة الفاصلة بين إرادة الشعب وسلوك النظام تتسع مع كل تحدٍ إقليميّ أو محليّ، مستوى الثقة بين الطرفين لا يعيش بحالة طيبة، كما أن الملفات العالقة كقضية فلسطين وجراح الثورات المفتوحة دون إبداء رد فعل كافٍ من الحكومات المحيطة يضاعف من الحمولة السياسية عليها.
وهذا يدفع الشباب خاصّة إلى التوافق مع خطاب داعش الذي يبتدرهم بحلول تبدو غير منطقية، ولكنها تعويضية في ظل التحفظ الذي تبديه بعض الدول القائمة وهو ما يفسّر تقريباً الاندفاع وراء رمزية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي أصبح رئيساً للدولة هناك.
يبدو أن الشعوب المسلمة تتعامل مع الإرهاب بطريقة مختلفة، إذ يشعرون -ورغم استنكارهم لمنظمات العنف الجهادية- بنوع من التماس مع لغتهم وخطابهم الشرعي والراديكالي، يتبنون غالب استنتاجاته السياسية وحصص التهم التي يكيلها على المجتمع الدولي وبعض الأنظمة الإقليمية ولكنهم يتحفظون بكثير من الأعذار على الطريقة الداعشية في تعاملها الدموي.
ويبدو أن اشتعال الخلاف الطائفي المذهبي الحادّ بين السنة والشيعة في المنطقة يعطي غطاءً جديداً لداعش إلى جانب مستوى القهر السياسي الذي يختص المسلمين في بقع مختلفة من العالم.
يجب أن نواجه الأسباب السياسية التي دفعت إلى إعادة إحياء العنف بوتيرة أكبر وأشرس، وبقاء مسألة “الجهاد” بإطلاقه دون تطويره بما يتوافق مع مفهوم الدولة الحديث، يزيد الأمر تعقيداً؛ فالجهاد وإن كان مصطلحاً شرعياً بحتاً ومنتجاً دينياً بامتياز، ولكنه لا ينفصل عن اتصاله بالسياسة وآثاره في الواقع تتعدى مسألة التنظير الشرعي إلى أدواره الميدانية والسياسية، وهذا يتوقف على حجم التحديث والتطوير في الآلة المفاهيمية والفكرية للإسلام وتطبيقاته الحديثة في ظل التطور العصري والزماني .
فكرة الدولة لم تكتمل في الذهنية الجمعية أو أن النظام السياسي العربي لم ينضج بعد ليصل إلى مستوى تمثيل رغائب شعبه، فإن الدول القائمة غالباً ما تصادم إرادة شعوبها في كثير من المناسبات التي لمعت في تاريخ وحاضر العالم العربي، ويبدو أن الديمقراطية بصفتها التمثيلية تعمل على تقريب الفجوة وتجسير طرفي المسألة .
كما إنّ ضعف برامج المعالجة السياسية والفكرية للمسارات العنفية والاستراتيجيات الوطنية لمكافحة الإرهاب جاءت بخطوات بوليسية زادت من الاحتقان وأنبتت جيلاً من الناقمين والمسحوقين، حتى الجزء الفكري والثقافي من المواجهة مع الإرهاب استخدمت فيه بعض الدول مجاميع الكتاب والصحفيين ممن يؤمن بالفكر الليبرالي بشكل سطحي ووظفوا نقمتهم وتهميشهم في نقد مستفز للمكون الديني دون مراعاة الثوابت أو ملامسة العمق التكويني للفكر المتشدد .
وأصبحت طوابير الناقدين تجمع حثالة الارتزاقيين ممن يشتغلون بالتحريض والاستعداء بينما يضيع الوطن في قبضة الترهيب أو التخوين .
وهذا لا ينفي بقية الأسباب المتداخلة والمساهمة في تغذية الإرهاب مثل مسائل التشدد الديني، فإن داعش توظف نفس الأصول التي يؤمن بها المسلمون كافة وإن كانت تستخدم تفسيرات ملتوية ومتعسفة ولكنها تستخدم بكثافة مؤلفات ورموزاً دينية معترف بها في النطاق العلمي والشرعي الصحيح .
وهذا لا ينفي بقية الأسباب المتداخلة والمساهمة في تغذية الإرهاب مثل مسائل التشدد الديني، فإن داعش توظف نفس الأصول التي يؤمن بها المسلمون كافة وإن كانت تستخدم تفسيرات ملتوية ومتعسفة ولكنها تستخدم بكثافة مؤلفات ورموزاً دينية معترف بها في النطاق العلمي والشرعي الصحيح .
ويبدو أن هذا يكشف عن حجم الأزمة الحقيقية، وإن تجاوزها البعض تحرجاً، فإن تحميل الجماعات الحركية والسروريين والإخوان وجماعات الصحوة وما أنتجته من عقود الإرهاب الدموي لا يجعل المسألة مفصولة عن المنطلقات المشتركة التي تنتظم كل الأطياف من أكثرها تشدداً حتى أكثرها مسايرة .
وكثافة التعليم الديني ليست وحدها تصنع الإرهاب، وتفكيك بنية التعليم الديني لا تكفي كذلك لمعالجة القضية كما يروج بعض السطحيين؛ فإن التونسيين يشكلون غالبية المنضوين تحت لواء داعش من الأجانب رغم الزخم التنويري والليبرالي خلال عهد بورقيبة والاستراتيجية البوليسية الحادة التي وضعها بن علي لمواجهة أي ملمح إسلامي في البلاد، وهذا يحدث إذا تذكرنا المسلمين القادمين من أوروبا، ليعيد إلى الأذهان مسألة المعالجة السياسية الجادة في مقابل هذه الظاهرة المستعصية .
ولا شك أن الثقافة الدينية الشعبية السائدة وطوباوية الفكرة الجهادية والتشبع بالطرح الخيالي والرومانسي لأحوال المجاهدين تغري الشباب بالاندفاع إلى منظمات العنف الديني إلى جانب التسويق الذي تتبناه هذه المنظمات؛ إذ تخاطب المجتمعات العربية والمسلمة بخطاب شرعي معسول وتسوق إليهم لغة تاريخية محملة بالذكريات السارة والقيم النبيلة .
ولا شك أن الثقافة الدينية الشعبية السائدة وطوباوية الفكرة الجهادية والتشبع بالطرح الخيالي والرومانسي لأحوال المجاهدين تغري الشباب بالاندفاع إلى منظمات العنف الديني إلى جانب التسويق الذي تتبناه هذه المنظمات؛ إذ تخاطب المجتمعات العربية والمسلمة بخطاب شرعي معسول وتسوق إليهم لغة تاريخية محملة بالذكريات السارة والقيم النبيلة .
يقابل ذلك ضعف البرامج السياسية والفرص التي تتيحها الأنظمة القائمة لاحتواء طاقات الشباب وإشباع حاجاتهم للعمل وخدمة الأمة والتأثير في السياسات وتقديم ما يريح الضمير تجاه قضايا الأمة والدين والمجتمع .
داعش منظمة خارج القانون والشرع والتاريخ، وهي نسخة متطورة من ظاهرة الإرهاب في المنطقة تكشف عن فشل ذريع في مواجهته وإخفاق واضح عن الحيلولة دون تدفق المناصرين والمنخرطين في صفوف هذه الجماعات الدموية، وهذا يستدعي وقفة جادة للتاريخ والمستقبل، نقف فيها أمام الحق متساوين نتنازل له ونتواضع لشروط الحل وإن كان فيها اقتطاع من صلاحياتنا ومكاسبنا من أجل أن يسير المركب بأمان إلى ضفاف المستقبل الذي نبنيه ويحيمنا.
داعش منظمة خارج القانون والشرع والتاريخ، وهي نسخة متطورة من ظاهرة الإرهاب في المنطقة تكشف عن فشل ذريع في مواجهته وإخفاق واضح عن الحيلولة دون تدفق المناصرين والمنخرطين في صفوف هذه الجماعات الدموية، وهذا يستدعي وقفة جادة للتاريخ والمستقبل، نقف فيها أمام الحق متساوين نتنازل له ونتواضع لشروط الحل وإن كان فيها اقتطاع من صلاحياتنا ومكاسبنا من أجل أن يسير المركب بأمان إلى ضفاف المستقبل الذي نبنيه ويحيمنا.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق