الفراغ " أزمة عصرنة " فهناك منطقة فاصلة بين الريف والمدينة ، بين ما نتمناه ونتخيله إلى درجة الهوس وترسمه لنا شبكات التواصل وفضائيات البث العبثي من صور المدنية الراقية وتغذية العقل بلذاذات العالم المتحضر ، وبين ما ينزفه واقعنا من شح الخيارات وضعف المتاحات ، اضطراب ذهني بين الواقع العاجز والمأمول المتجاوز ، بين الحقيقة القاصرة والأحلام الفاخرة ، وليقترب المعنى أكثر بإمكانك أن تقف على مشهد " السهر " وهو منتج مديني بامتياز لأنه يمارس في ظل مدن صاخبة تعج بالسهرات الصباحية حتى أصبحت المدن التي لا تنام عنوان تلك المناطق الجغرافية التي لا تهدأ من إيقاع الليالي المدوية ، ولكنه ينتشر ببشاعة في الأرياف وهي لا تقوى على مثل هذا .
فكرتك عن " الزمن " تنطبع على تعاطيك مع مشتقاته المختلفة ، والفراغ مرتبط في حواضرنا وأريافنا بمعناه السلبي القاتم ، إذ يعني وللأسف الكتلة الزمنية التي تشعر فيها بقلة الحيلة وانعدام الأنشطة ، تطورت الأزمة من حسن استغلاله إلى فزاعة الهروب منه ، وعلى بوابة الخروج القسري تجد أكوام المراهقين مهرولين إلى ما يليق وما لا يليق هرباً من شبح الفراغ الذي يهلعهم ويستبد بهم .
كلما امتلكنا فكرة متطورة وعميقة عن الزمن يصبح بمقدورنا أن نعيد صياغة الزمن وتحوير الوقت بناء على جوهرنا ، وعلى أساس ما نقوى عليه وما نميل له ، نخرج باستراتيجية يكون محورها " ذواتنا " بكل نقاط قوتها وضعفها ، نستطيع معها أن نحقق أكبر إمكانات التوظيف لمعاملات الزمن وأحسن فرص استغلال الوقت والفراغ ومساحات العمر الواسعة .
وستبقى الحلول الوقتية والتقليدية جزءاً من المشكلة ، مثل الاقتراحات الدينية أو الثقافية وسواها مما يأتي في سياق وعظي وخطابي مكرور يفاقم الأزمة ، إذ كيف تدعو شاباً قليل العبادة إلى استغلال أوقات الفراغ بالاستزادة من الصلاة والاستفادة من المواسم الدينية بالتقرب إلى الله على خيرية هذا الاتجاه ، أو تدعو مراهقاً يستثقل الدراسة النظامية أن ينكب على الكتب ويلتهم المتون ، وسوى ذلك من أنشطة الرياضة والمنافسات مختلفة الألوان فإنها لا تخرج من دائرة المتتالية العبثية التي تغرق الشاب في وهم انشغالي يملأ الوقت ولا يشبع الفراغ ، يفيض لكثرته من فم الكأس ولكنه لا يروي عطشاً ولا يطرد الضمأ .
علينا أن نطور أفكارنا حول الجد والفراغ ، حول الزمن والوقت ، ونصوّبها أكثر ونجعلها بفعل التدقيق والتصحيح والمراجعة والموائمة أقرب لجوهرها الحقيقي وصورتها الأصوب .
تعليقات
إرسال تعليق