انفتحت واحدة من الصناديق السوداء التي تحتفظ بجانب من سيرة المنطقة إبّان حقبة صعبة وشديدة الخطورة، رسائل البريد الإلكتروني للمرشحة الجمهورية السابقة ووزيرة خارجية العهد الأميركي السابق هيلاري كلينتون، وهي وإن كانت انكشفت كجزء من الأجواء الانتخابية المحمومة في الولايات المتحدة، لكنها شكلت فرصة للاطلاع على سردية مهمة لدى واحدة من المطابخ المهمة والمشاركة في ترتيب ظروف المنطقة وتخصيب فضائها العام.
كشفت الرسائل عن حجم المخاطر التي كانت محدقة، عن خيوط اللعبة الدولية والإقليمية، النقطة العمياء من حكاية حافة الفوضى التي وقعت الدول العربية في حبائلها لعقد كامل، عن العواصم الخليجية وتبرّمها من سلوك واشنطن، ومقاومتها لمحاولات زراعة الكيانات الدخيلة، عن طرد أشباح الظلام، وعن الأشواط الأخيرة في الوقت المتبقي من ساعة الانهيار الكبير.
وكشفت المداولات التي وثقتها الرسائل المسربة، أن ثورات الربيع العربي، وإن كان بعضها اتسم بطابع عفوي، وانفجر نتيجة ظروف يائسة صنعها الإحباط العام الذي كان يلف واقع بعض البلدان العربية، إلا أن محاولات توجيهها واستثمارها وركوب موجتها كانت تتم بترتيب مع الخارجية الأميركية.
الكثير من الأسماء، والتي تنتمي على الأغلب لتنظيم الإخوان، كانت على اتصال مباشر وعبر خط ساخن وتعاون يتجاوز المطابقة. حدث ذلك في أحداث اليمن ومصر والبحرين.
هناك الكثير من الأخبار والأسرار التي حفلت بها الإيميلات المسربة من بريد كلينتون، مثال ذلك أن قطر أعلنت استعدادها لتمويل قناة إخوانية بمبلغ 100 مليون دولار، وبإشراف نائب المرشد خيرت الشاطر، كما تحدثت عن دعم الدوحة لجماعات متطرفة في ليبيا.
وكشفت عن القصة التي باتت معروفة الآن، عندما اتصلت كلينتون بالأمير سعود الفيصل، وزير خارجية السعودية، فأغلق الخط في وجهها بسبب أحداث البحرين.
وهذه الرسائل المسربة جاءت على مسافة زمنية قصيرة من ظهور تسريب آخر يتحدث عن وثيقة تسمى “PSD-11 STRATEGY”، وهي الوثيقة التي وافق عليها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، ووقّعها قبل بداية الانتفاضات العربية، ولا تزال هذه الوثيقة مصنّفة على أنها سرّية. وقالت تقارير إعلامية إن الوثيقة أشبه بخطّة مقترحة تشجع على تمكين الإخوان من حكم المنطقة العربية بوصفها قوى معتدلة، يمكن التفاهم معها غربيا، وتطويرها وفك انسداد الحالة العربية قبل أن تنفجر في وجه العالم على شكل إرهاب عابر وفوضى عارمة.
فجأة اضطرت الدول المعتدلة في المنطقة أن تواجه الولايات المتحدة وهي تقلب ظهر المجن، وسط عاصفة هوجاء من الثورات التي تحولت إلى بؤر صراع، تنكّرت واشنطن لروابط الاستقرار في المنطقة، وبلغت بعض المواجهات بينها وبين بعض العواصم العربية، التي تماسكت حتى تنجلي العاصفة، وعلى رأسها الرياض، درجة من الاحتكاك والغضب، لكنها ربحت الرهان، وربحت الخروج من عنق الفوضى بأقل الخسائر.
لم تسلم المنطقة تماما من ثقوب تملأ جدار التاريخ، لكنها حافظت على الحد الأدنى من مكتسبات الاستقرار، ونفي عناصر التخريب، وإقصاء مشاريع الاختراق الإقليمي التي أطلقتها كل من أنقرة وطهران، وأعادت التوازن إلى ميزان التنافس، وأمنت سلامة المنطقة وخروجها من النفق المظلم والمصير المجهول الذي كان يتربّص بها.
تعليقات
إرسال تعليق