من شدة استغراقه في الخرائط المتشظية، وهو يوزع طاقته في التدخل حول العالم، نسي الرئيس التركي رجب أردوغان الأعراف الدبلوماسية وهو يتهجم على دول منطقة الخليج العربي، ويعدها بشكل سافر أن يرفع علم بلاده على أراضيها.
تحول أردوغان بإستراتيجيته من مجرد تصدير أزمة بلاده الداخلية، إلى تبني مبدأ التوسع البشع خارجها، والتعاطي مع كل بؤر الصراع بمنطق تدخلي حاد، ألهب مشاعر عداء الشعوب قبل الحكومات ضد تركيا.
يعكس أردوغان بسلوكه السياسي والخطابي انهيار أحلامه العريضة التي علقها على ما يعرف بمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي تزامن مع وصوله إلى مؤسسة تحكم بلادا كانت تعاني من تراجع دورها وهشاشتها الداخلية وتكدس ملفات الفساد ودور سلبي للجيش، وتمكن من إعادة هندسة البلاد حتى أضحت تحت سيطرته الكاملة.
ويصر أردوغان على التفكير من داخل شبح استعادة العثمانية؛ بعض الكلمات التي استخدمها في خطابه الأخير ضد دول الخليج وجاءت من نوع “دول لم تكن موجودة من قبل، ولن تكون في المستقبل”، وهي تحمل دلالات سيطرة هذا الحلم على مخياله وانزلاقها على لسانه يؤكد ذلك، وقد أصبح الآن يجاهر بها بعد أن كانت مستترة لعقد تقريباً.
تنضم تركيا في عهدة أردوغان ومشاريعه الهادفة للتوسع الإمبراطوري، إلى جارتها اللدود إيران، ويصطف أردوغان إلى جانبها، بوصفهما أصحاب دور سلبي واستقطابي يبدد استقرار المنطقة ويستنزف قدراتها، ويوظف لخدمة الأجندة الخارجية، طوابير الولاء الأيديولوجي المندسة في صفوف شعوب المنطقة.
يصر أردوغان على التفكير من داخل شبح استعادة العثمانية؛ بعض الكلمات التي استخدمها في خطابه الأخير ضد دول الخليج
لقد قدمت الظروف غير المستقرة للمنطقة العربية بعد ما يسمى بالربيع العربي، فرصة ذهبية لأنقرة وطهران لتحقيق نوايا التوسع، لكن إخفاقات الجماعات الإخوانية في الانفراد بحكم البلدان التي آلت إليها بعد الثورات، حطمت أحلام أردوغان التي أضحت مثل صخرة سيزيف عبئا يحمله على عاتقه في كل بؤر الصراع التي توزعت في المنطقة وتورطت فيها تركيا.
بخليط من مشاعر الهزيمة والغضب، يوزع الرئيس التركي طاقته المستنزفة على الخرائط المكشوفة، يلملم أشتات مشروعه الذي تبعثر في كل مكان، جلس مرة قبالة نظيره الروسي فلاديمير بوتين وهو يفرد خرائط الشمال السوري لتنفيذ العلميات التركية في سوريا والتي أطلقت أنقرة عليها اسم “نبع السلام”.
ومرة أخرى وعبر بث تلفزيوني استعرض أردوغان وهو يؤشر بجهازه الليزري على الشاشة المصقولة أمامه خارطة ليبيا ويصرّ على استمرار عملياته العسكرية وتحقيق أهدافه الاستعمارية.
هذا العقل الخرائطي، الذي لا يلقي اعتباراً للحدود والمواثيق والقوانين التي استقرت عليها السياسات العامة في المنطقة، يذكرنا بسلوك تنظيم داعش حينما كان ينسف الحدود بين سوريا والعراق، ويغمر المناطق بعناصره المتحفزة للموت.
وهو أيضا يذكرنا بمسؤولية حكومة أنقرة في إضعاف الدول المحيطة، وتمكين عناصر الرايات السوداء من تفخيخ الخرائط وتسريبهم إلى دول الجوار، وفي تحويل حدود الدول إلى مناطق رخوة وهشة ومثخنة بالأوجاع، حتى يمكّن أردوغان لأحلامه أن تتحقق.
تعليقات
إرسال تعليق