تشترك دول الخليج في منظومة التحديات الراهنة وإن تفاوتت تأثيراتها من دولة إلى أخرى تماما كاختلاف استجابتها وردة فعلها تبعا لاستعدادها الاقتصادي وانسجامها السياسي.
في فترات زمنية قصيرة، شهدت بعض الدول الخليجية رحيل زعماء كانوا لعقود يحتفظون بالطابع التقليدي للسياسة الداخلية والخارجية، كانوا رموز مرحلة سابقة، كانت الظروف والتحديات والآمال غير ما هي عليه الآن، فقدت كل من سلطنة عمان قابوسها، ودولة الكويت صباحها، واندلعت الأسئلة عمّا إذا كان هذا الرحيل إيذانا بنهاية جيل وبداية مرحلة، لاسيما وأن الواقع الجديد الذي يحيط بالمنطقة، وفي القلب منها الخليج، يلحّ بتغيير استجابة دوله ومراكز قراره لهذا الواقع.
بالإضافة إلى رحيل أمير الكويت وسلطان عمان، فإن دولا مثل السعودية والإمارات والبحرين، شهدت خلال الخمس سنوات الأخيرة صعودا لوجوه شابة في مواقع صنع واتخاذ القرار، وتبني سياسات أكثر جرأة وإقداما في الكثير من الملفات والمسائل، مما يشكل برهانا آخر على نمط وتوجه جديد في مياه الخليج على ضفته العربية.
تعدّ دول الخليج العربي دولا ذات طابع شخصي، بمعنى أن حضور شخص أو غيابه، يؤثر في الاتجاه العام للسياسة، رغم كل الجهد المبذول في التشاور والتحري وجهود مأسسة المنطق التفكيري، لكن الطابع الشخصي يلعب دوره، بما يجعل التغيير مرتقبا ومحتملا عند غياب شخص ووصول آخر.
تصرّ العواصم الخليجية في كل مرة، أنها مستمرة في تبني من خَلَفَ، سياسة من سَلَفَ، لأنها تميل إلى إحداث التحولات بهدوء على أن تجاهر بها أو تعلن باتخاذها، لأن الاستقرار وإبلاء الثبات في المواقف من أهم بنود الاستمرار في الطبيعة الخليجية وتاريخ سياستها التوجيهية، لأن زعزعة أنظمة التوازن مضرّة، وغير مضمونة العواقب.
لكن اللحظة غير المسبوقة والمألوفة من هشاشة المحيط العربي، وديناميكية المنطقة، تحتم عليها اتخاذ سياسة انقلابية في نهج الدول الخليجية، وتلحّ على تبديل مفردات استراتيجيات العمل والاستجابة، بما يجنبها الغرق في وحل المشكلات والخروج بمأمن من نفق الظلام الذي ابتلع المنطقة وذهب بالكثير من عواصمها وحواضرها التقليدية، ولا يزال مستقبل المنطقة سخيّا بالمفاجآت والوعود غير الآمنة.
لا يمكن البقاء عند منطقة الهواجس القديمة، ولا مراعاة المخاطر التي عرقلت الكثير من فرص اتخاذ الخطوات، وقطع المسافات نحو التغييرات الجريئة، لا يسع الخليج الاحتفاظ بآلة زمن الماضي، ولا كسب الرهان على التكتلات الشكلية التي تؤطر الخيارات المنفردة، التي أخذت مؤخرا شكل ثنائيات عملية لاختراق المحظورات التقليدية. يحتاج الخليج دائما إلى الابتكار في سياساته، وإلى نقض ورفض القيود الشعاراتية، وترجيح البراغماتية أكثر.
كما أن تعدد الخطوط والاستقطابات داخل البيت الواحد، يؤثر في وضوح الرؤية، وغياب ظهير شعبي يتوفر على خدمة الأجندة الوطنية، ويستنزف طاقة الدولة ومؤسساتها، ويبطئ من سرعة انطلاقها في فضاء الإصلاح، وكلما اشتد الاستقطاب وتشظّى الإجماع الوطني، انفرط العقد وانحرفت البوصلة وتكثف الضياع وشتات الأمر، وبذلك فإن قطع الطريق على هذا من ضرورات المرحلة.
يكاد التاريخ المؤَسَس عند اللحظة الماضية العتيقة أن يبتلع المنطقة، أو تغص به، مفردات الزمن القديم، يشوبها التردد والتمهل والانتظار، بما يؤجل قطع الأشواط المفيدة نحو التغيير الضروري، ويزيد من كلفة التأخير وأعباء التسويف.
إن “المشاريع العملاقة كوسائل تحويلية للاقتصاد” و”التغييرات المثيرة” في شكل ونهج دولة خليجية ما، قد تكون كافية على المدى القصير لقيادة دفة البلد إلى المستقبل الجديد، واختراق حاجز الزمن، لكنها بحاجة إلى دعامة استراتيجية تتبنى منهجا طويل المدى، وبعيد الأجل، لتأبيد حالة الانتعاش، ونفي مخاطر انسداد الأفق، وتعاظم أسباب التململ وتزعزع الدولة.
ولأن أغلب دول الخليج تبدو، نظرا لحجمها الجغرافي والبشري الصغير، بشكل يؤثر في درجة فاعليتها السياسية، فإن تبني سياسات منفردة وشاذة أحيانا عن السياق الخليجي، بغرض إعطائها درجة أفضلية من الأهمية، ستكون تبعاتها مكلفة ومزعجة للجيران نتيجتها الشقاق الكبير والمضني.
هموم الاقتصاد تضاعفت بانخفاض أسعار النفط، وتأثيرات جائحة كورونا، والارتفاع النسبي في معدلات البطالة، وتعثر في بعض برامج التحول الاقتصادي، والركود التجاري والسياحي، وفعالية خطط العلاج والملاءمة، فضلا عن رياح التطبيع التي تهب على المنطقة بكل أحمالها السياسية والإستراتيجية، بين وعود المرحلة الواعدة، وخسارة الخروج من قطار الزمن، وما يتصل بذلك من مسائل الأمن الشامل، والمخاطر المستجدة والمتجددة بشأن إيران، والتطرف وفائض الفوضى المتأججة في المحيط الإقليمي، وليس بعيدا عنها حسابات المحك في البيت الخليجي، وأفكار الخروج به من إطار التوتر والقلق على مصيره، إلى مرحلة جديدة من هندسة دوره وحضوره.
واشنطن ليست دائما على نفس الطريق، تعزز الوقائع لاسيما الأخيرة منها هذه العبارة التي ربما تكون عنوان المرحلة، لا يمكن شحن احتمالات مستقبل المنطقة ونحن على حافة الترقب، فثغرات الانتظار تنفذ منها الشكوك والحيرة وضياع البوصلة، كما أن تقديم كل دولة لذاتها منفردة من إطارها الخليجي، يؤثر في تقديرات واشنطن لحجم التأثير والانفتاح على التغيير.
تشترك دول الخليج في منظومة التحديات الراهنة، وإن تفاوتت تأثيراتها بين دولة وأخرى، تماما كاختلاف استجابتها وردة فعلها، تبعا لاستعدادها الاقتصادي وانسجامها السياسي، على أمل أن تحقق البدايات الجديدة، سواء جاءت بعد رحيل قائد محوري أو نتيجة تدشين مرحلة ما، ثمرة الخروج إلى بر الأمان ومرافئ الاطمئنان.
تعليقات
إرسال تعليق