المناهج الجديدة سعت لتعزيز الهوية الوطنية والتخفيف من مستدخلات المنهج الخفي وتسليط الضوء على حضارات الجزيرة العربية القديمة وتناول قضايا تاريخية كانت مستبعدة.
الأربعاء 2019/08/28
لم تكن مرحلة التغيير التي دشنتها المملكة العربية السعودية منذ سنوات، مقتصرة على البعد الاقتصادي أو الديني الصرف، وإنما كانت مشروعا متكاملا يأخذ على عاتقه مهمة إصلاح المجتمع وتدريبه على تقبل المتغيرات العالمية الهوجاء. فكانت مقاومة الأفكار المتطرفة مفصلا أساسيا في هذا الجهد، وكان تغيير المناهج الدراسية عنصرا مركزيا داخل هذا المبحث. تغيير لم تستسغه الجماعات المتطرفة داخل السعودية وخارجها، لأنها تعرف أثره وأهميته لأجيال المستقبل.
بشكل لم يكن مستغرباً استفز محتوى المناهج الدراسية بعد تجديدها في المملكة العربية السعودية، مجاميع من المؤدلجين في دول عربية وأخرى أجنبية، فاقتحمت الشأن المحلي البحت للإدلاء بتعليقات وتوزيع الاتهامات على خطوة السعودية التي اتخذتها لإصلاح المناهج الدراسية، لاسيما تلك المتصلة بمواد التاريخ والثقافة الوطنية.
وقد هطلت العديد من التغريدات التي تبنت فكرا مناهضا لخطوة تغيير المناهج السعودية، إلى درجة وصفها بالتضليل، من ناشطين خليجيين أو من وكالات أخبار تركية وقطرية تتصل معهم في ذات المنهل الذي ينهلون منه.
وأمام خبرة عريضة اكتسبتها السعودية، مؤسسات أو مجتمعا، في مواجهة هذا النوع من الهجوم الهستيري إزاء كل خطواتها، تمضي غير آبهة في خياراتها التي تلقى ترحيباً شعبياً وإجماعاً وطنيا واسعا.
وقد حاولت جماعات المؤدلجين، إلصاق هذه الخطوة بتضييق الخارج وضغوطه. وكانوا يحاولون، عبثا، تجريد هذه الخطوة من دلالاتها الرصينة لمنحى التغيير الذي اتخذته السعودية وتمضي فيه منذ سنوات، بما يجعل خطوة إصلاح المناهج مطلباً وطنيا ملحا، وليكون جزءاً من سلسلة التحولات الراهنة لبناء مجتمع مستعد لتحديات المرحلة، ويلتقي مع تفاصيل رؤية المملكة 2030 التي تعوّل بالأساس على مجتمع حيوي ناهض، مؤمن بمشروع دولته، ومفعم بالعمل لها والذود عن مكاسبها ومتشبع بقيمها القومية.
كما أن مساعي إصلاح المناهج ليس جديداً في تاريخ التعليم السعودي، فهو عمل مستمر ودائب، زادت وتيرته خلال العشر سنوات الأخيرة، وتلحّ الحاجة إليه مؤخراً بالنظر إلى التحول الكبير الذي تعيشه البلاد هذه الأيام، ولم يكن لشأن من هذا النوع أن يستفز الجماعات المؤدلجة، لولا ظروف المواجهة السافرة التي تعصف بها اليوم مع السعودية، والدور الوظيفي الممنوح لها، خدمة لأجندة رعاتها الإقليميين ممن يناصب السعودية العداء والخصومة.
حاولت جماعات المؤدلجين إلصاق تغيير المناهج بضغوط الخارج. وكانوا يحاولون تجريد الخطوة من دلالاتها الرصينة
لقد انطوت التعديلات الجديدة على محتوى أكثر قومية وأقل أممية، بعد أن تشظت روح المجتمع ووجدانه في شتات القضايا العابرة للقارات، فلا وطناً وادعاً أبقى في طيّات نفسه، ولا قضية نصر إلا ما خلقته سنوات التعبئة والتحريض والتطرف من منتجات فكرية وبشرية جرّت على البلاد ويلات وورطات، جاء الوقت لمواجهتها والحيلولة دون تكرارها.
سعت المناهج الجديدة لتعزيز الهوية الوطنية والتخفيف من مستدخلات المنهج الخفي الذي انشغل بتعبئة المجتمع بنَفَسه الأممي، وتسليط الضوء على حضارات الجزيرة العربية القديمة مثل حضارة المقر، ودلمون، وعاد، وثمود، ودادان ولحيان، ومدين، وثاج، وكنده، وغيرها، وتناول قضايا تاريخية كانت مستبعدة لأغراض مخاتلة في نفس من كانت لهم سطوة ونفوذ.
وكالعادة، يذهب المؤدلجون بالخطوة في الوادي الذي يفضلون، المحشو بهواجس المؤامرة والتغريب والاختراق الفكري والغزو الثقافي، وينفخون في حرائق الجدل الهستيري الذي لا يثير سوى غبار المعارك الهامشية، ويصدرون عرائض الاحتجاج الشكلي، ويوزعون التهم جزافاً على كل المخالفين، ويسردون روايتهم المفضلة في وصف الأشياء وتحميلها أكثر مما تطيق من التفسيرات المضللة والتلفيقات المتوترة.
ولأن الكثير من منصات ومنابر التحريض اختفت أو ألغيت أدوارها، انبرى المسعفون من خارج الحدود، لإنقاذ ما يمكن من جسم الصحوة المسجى على قارعة النسيان والإهمال، ينفخون عبثا في جثمانه، الذي لفظ لتوه النزع الأخير في روحه، واستسلم لرغبة المجتمع في التغيير، ورحل غير مأسوف عليه.
يحدث هذا كجزء من حرب مفتوحة على توجهات السعودية الجديدة، ومقاومة تحركاتها الشجاعة لبسط واقع جديد، قامت خلاله بالكثير من المراجعات، وإعادة ترتيب أجهزتها ومؤسساتها لتتجاوب بوعي وجسارة مع زمن التغيير.
حيث أعادت المملكة الاعتبار لكثير من قيمها ورموزها الوطنية، وتسامحت مع مفاصل كثيرة من تاريخها، الذي كان مغيباً لحاجات أيديولوجية أرادت من ورائها الصحوة بناء مجتمع خاضع لأجندتها ومستسلم لمشروعها.
وبذلك أصبح متاحا ومباحا لجيل سعودي جديد أكثر حظاً ممن سبقه، أن يدرس في منشأة تعليمية تحمل اسم إبراهيم خفاجي الذي كتب كلمات النشيد الوطني، وله مجموعة من جواهر القصائد المغناة، ويحضر أمسية فنية على مسرح يحمل اسم الفنان طلال مداح، ويدرس في مناهج التعليم عن عالية البقمية التي واجهت جحافل الغزاة الأتراك.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق