التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تفاوض مع الموت


يبدو الموت مخيفاً أكثر منه مؤلماً إذا التقط شاباً في مقتبل العمر، ويصبح مهاباً أكثر إذا كان هذا الشاب مقبلاً على الحياة بكل ما أوتي من عنفوان الشباب، مفعماً، شغوفاً، أبرم الكثير من الصفقات والأحلام مع المستقبل.
كلما انطفأت حياة شاب، تبدو لك الدنيا تخلو أكثر فأكثر، وبعض الناس يخسر بعض أسباب البقاء بفقدان المزيد من أحبابه وأترابه بحجة الموت، تذبل سيقان الأيام وهي تفقد نمير شاب انحسم سيلان حياته فجأة وبدون مقدمات، تخبو جذوة السعادة خجلاً من فراق شاب كانت الحياة أجدر به والموت أبعد عنه.
ينضاف إلى أسمائهم ومواقفهم “كان” حتى نتذكر أن فرصة استعادة ذلك مستحيلة بعد الآن، تنسدل المواقف التي جمعتنا بهم بتداعي يغسلنا بالحزن الممضّ حتى يكاد يصرعنا فقداً وأسى.
الموت في أقسى صوره قهراً، بعد أن يستوفي سلسلة المناسبات التي تحشد المسنين وأصحاب الأمراض المؤهلة للوفاة، يلتقط في طريقه قدراً أحد الشباب ليفاقم سطوته في نفوس الناس.
عندما تتوارد أخبار الوفاة بدون توقف وتحمل على النعوش أجساد كانت آيلة للموت بداعي المرض أو تقدم العمر، يفقد الموت بريقه كضيف مستعجل، يشعر الناس باللامبالاة، ينغمسون في حيواتهم ويزدرون الموت وكأنه حقيقة مؤجلة، يتنساونه إمعاناً في تجاهله، ينحّون ذكرياته جانباً وينصرفون إلى يومياتهم، وكأن الموت أعطاهم هدنة لبعض الوقت، لكنه لا يستسلم مطلقاً.
يأتي الموت في شكل جماعي، لا يعطي قرية فرصة لالتقاط الأنفاس، ينهش أرواح أبنائها مثل وحش كاسر يختبئ في طرف القرية ويعاود انقضاضه مع حلول الليل، يثير الرعب، ينتشر الذعر مثل دخان، ويزول الموت مثل سحابة، يُنسى الموتى وتستمر الحياة.
يقسو الموت أكثر ليعيد اعتباره في النفوس، يفترس شاباً ملفتاً ليكون وقعه أكبر، يسود ذهول عارم، يحاول البشر لوم الموت بأدواتهم العقلانية، ولكن الموت قدر ينتمي إلى عالم الغيب ولا يحتكم لقواعد العقل بتاتاً.
أكثر ملامح الموت رعباً، أنه يلغي أي فرصة محتملة للقيام بشيء لائق، يلغي فرصة أن تعتذر، أو تعلن حبك، أو كلماتك النابضة بالامتنان لأولئك الأشخاص الذين أصبحوا في طي البرزخ.
الجانب اللطيف من الذكريات يتحول إلى جحيم، إلى ركام من الوجع، تلك الصور التي التقطت لتحتفظ باللحظات الحميمة تصبح جراحاً مفتوحة، اللحظات نفسها التي عشناها معاً ونحن في غاية ثملنا بالحياة تتبرأ من شراكة الأموات، تعطينا غاية ما تستطيع من الاستئناس بهم حتى يكون افتقادهم مؤلماً أكثر، نفنى في التعلق بهم حتى تكون لحظة غيابهم مثل وخز لا يبرأ.
الموت وحده الذي انكسرت على منصته كل دواعي الكبرياء، توقفت أمام جبروته كل مشاغبات الإنسان لامتلاك الإجابات والتحكم في المصائر، الموت وحده يقف في مواجهة طغيان الإنسان وفحشه، والرحمة ولطف الله وحدها تستطيع أن تشتمل الموت والإنسان في ميزان العدل والحكمة الذي يصالح بينهما.
يريد أن يقول لنا الموت في زيارته العابرة وتلك الماكثة أشياء كثيرة، وأكثرها أهمية: أن نضاعف من قيمة الحياة، يخوفنا بحضوره الشره لندرك معنى أن يتجاوزنا إلى غيرنا، وأن هذا التحذير الباهت ينطوي على لفتة شديدة الوضوح أننا يجب أن نستغل المهلة المتبقية من العمر وأن نثبت استحقاقنا لها.
تحاول أجهزة الاتصال تسريع عملية النسيان والانخراط في الحياة مجدداً، تختصر وقع الموت في مجرد مزاج افتراضي يتوشح الحزن للحظات، رسالة شخصية وصورة رمزية يمكن أن تعبر عن تعاطفنا باختصار وتلغي إحساسنا العميق بالموقف، تلتهم اتصالنا الحميم بالحياة وتدفعنا مجدداً بسرعة هائلة في دوامة الدنيا، هكذا باستعجال شديد لا يقدر الموت حق قدره، ويحتفل به بطريقة غير لائقة ربما تجعلنا ندفع الكثير من أيام الاستخفاف، يومئذ يأتي الموت ونحن أقل استعداداً وأكثر قابلية للورطة.
يتحول الموت في اعتبار جيل مدموغ بالتقنية إلى مجرد قائمة عشوائية تتدخل فيها الصدف، وأيام العزاء إلى موعد اجتماعي مثخن بالمجاملات، ولا قيمة للموت نفسه.
الموت يخصنا نحن الأحياء أكثر من صاحبه، الموت ألم يقع على شخص ويشعر به الآخرون، والألم خلق ليسترعي انتباهتنا، فهل من متعظ؟
الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم،...