يبدو الموت مخيفاً أكثر منه مؤلماً إذا التقط شاباً في مقتبل العمر، ويصبح مهاباً أكثر إذا كان هذا الشاب مقبلاً على الحياة بكل ما أوتي من عنفوان الشباب، مفعماً، شغوفاً، أبرم الكثير من الصفقات والأحلام مع المستقبل.
كلما انطفأت حياة شاب، تبدو لك الدنيا تخلو أكثر فأكثر، وبعض الناس يخسر بعض أسباب البقاء بفقدان المزيد من أحبابه وأترابه بحجة الموت، تذبل سيقان الأيام وهي تفقد نمير شاب انحسم سيلان حياته فجأة وبدون مقدمات، تخبو جذوة السعادة خجلاً من فراق شاب كانت الحياة أجدر به والموت أبعد عنه.
ينضاف إلى أسمائهم ومواقفهم “كان” حتى نتذكر أن فرصة استعادة ذلك مستحيلة بعد الآن، تنسدل المواقف التي جمعتنا بهم بتداعي يغسلنا بالحزن الممضّ حتى يكاد يصرعنا فقداً وأسى.
الموت في أقسى صوره قهراً، بعد أن يستوفي سلسلة المناسبات التي تحشد المسنين وأصحاب الأمراض المؤهلة للوفاة، يلتقط في طريقه قدراً أحد الشباب ليفاقم سطوته في نفوس الناس.
عندما تتوارد أخبار الوفاة بدون توقف وتحمل على النعوش أجساد كانت آيلة للموت بداعي المرض أو تقدم العمر، يفقد الموت بريقه كضيف مستعجل، يشعر الناس باللامبالاة، ينغمسون في حيواتهم ويزدرون الموت وكأنه حقيقة مؤجلة، يتنساونه إمعاناً في تجاهله، ينحّون ذكرياته جانباً وينصرفون إلى يومياتهم، وكأن الموت أعطاهم هدنة لبعض الوقت، لكنه لا يستسلم مطلقاً.
يأتي الموت في شكل جماعي، لا يعطي قرية فرصة لالتقاط الأنفاس، ينهش أرواح أبنائها مثل وحش كاسر يختبئ في طرف القرية ويعاود انقضاضه مع حلول الليل، يثير الرعب، ينتشر الذعر مثل دخان، ويزول الموت مثل سحابة، يُنسى الموتى وتستمر الحياة.
يقسو الموت أكثر ليعيد اعتباره في النفوس، يفترس شاباً ملفتاً ليكون وقعه أكبر، يسود ذهول عارم، يحاول البشر لوم الموت بأدواتهم العقلانية، ولكن الموت قدر ينتمي إلى عالم الغيب ولا يحتكم لقواعد العقل بتاتاً.
أكثر ملامح الموت رعباً، أنه يلغي أي فرصة محتملة للقيام بشيء لائق، يلغي فرصة أن تعتذر، أو تعلن حبك، أو كلماتك النابضة بالامتنان لأولئك الأشخاص الذين أصبحوا في طي البرزخ.
الجانب اللطيف من الذكريات يتحول إلى جحيم، إلى ركام من الوجع، تلك الصور التي التقطت لتحتفظ باللحظات الحميمة تصبح جراحاً مفتوحة، اللحظات نفسها التي عشناها معاً ونحن في غاية ثملنا بالحياة تتبرأ من شراكة الأموات، تعطينا غاية ما تستطيع من الاستئناس بهم حتى يكون افتقادهم مؤلماً أكثر، نفنى في التعلق بهم حتى تكون لحظة غيابهم مثل وخز لا يبرأ.
الموت وحده الذي انكسرت على منصته كل دواعي الكبرياء، توقفت أمام جبروته كل مشاغبات الإنسان لامتلاك الإجابات والتحكم في المصائر، الموت وحده يقف في مواجهة طغيان الإنسان وفحشه، والرحمة ولطف الله وحدها تستطيع أن تشتمل الموت والإنسان في ميزان العدل والحكمة الذي يصالح بينهما.
يريد أن يقول لنا الموت في زيارته العابرة وتلك الماكثة أشياء كثيرة، وأكثرها أهمية: أن نضاعف من قيمة الحياة، يخوفنا بحضوره الشره لندرك معنى أن يتجاوزنا إلى غيرنا، وأن هذا التحذير الباهت ينطوي على لفتة شديدة الوضوح أننا يجب أن نستغل المهلة المتبقية من العمر وأن نثبت استحقاقنا لها.
تحاول أجهزة الاتصال تسريع عملية النسيان والانخراط في الحياة مجدداً، تختصر وقع الموت في مجرد مزاج افتراضي يتوشح الحزن للحظات، رسالة شخصية وصورة رمزية يمكن أن تعبر عن تعاطفنا باختصار وتلغي إحساسنا العميق بالموقف، تلتهم اتصالنا الحميم بالحياة وتدفعنا مجدداً بسرعة هائلة في دوامة الدنيا، هكذا باستعجال شديد لا يقدر الموت حق قدره، ويحتفل به بطريقة غير لائقة ربما تجعلنا ندفع الكثير من أيام الاستخفاف، يومئذ يأتي الموت ونحن أقل استعداداً وأكثر قابلية للورطة.
يتحول الموت في اعتبار جيل مدموغ بالتقنية إلى مجرد قائمة عشوائية تتدخل فيها الصدف، وأيام العزاء إلى موعد اجتماعي مثخن بالمجاملات، ولا قيمة للموت نفسه.
الموت يخصنا نحن الأحياء أكثر من صاحبه، الموت ألم يقع على شخص ويشعر به الآخرون، والألم خلق ليسترعي انتباهتنا، فهل من متعظ؟
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق