الوعظ العابر قيمته مرتبطة بشهرة صاحبه، حتى لو ساق معاني خاطئة وجنونية، بينما تختفي الكثير من الوصايا النبيلة الجادة لأن صاحبها مغمور، وهذا ربط شخصاني غير منطقي.
العرب عمر علي البدوي [نُشر في 08/05/2015، العدد: 9911، ص(9)]
يستغرق الصديق ساعات يومه في متابعة مجموعة المقاطع الدينية التي تنهال عليه يوميا في برنامج “الواتساب”، ينكس رأسه في شاشة جواله الصغيرة، بإمكانك أحيانا أن تميز صوت الشيخ “الرقيق” صالح المغامسي فهو يميل إليه كثيرا، أو صوت الداعية “الصحفي” صاحب الشعبية الجارفة وسط شباب جدة، وسواهم من خلطة مشائخية تتباين في استعدادها العلمي وقدرتها على جذب انتباه المستمع.
أحيانا لا تستطيع تمييز الصوت بدقة، ولكن تتضح بعض الكلمات المتقافزة من شاشته، كلمات عارية من أي منطق، إلا إثارة الخوف والقلق وتبديد حبل الثقة بالله والناس، وغمر الأذن بويلات القبور وما تضيق به الصدور.
المقاطع ليست كلها هشة، سمعت مرة حديثا بناء لرجل دين يمني فيما يظهر من لهجته، تحدث بعمق ولطف عن المسؤولية على وجه الدنيا، ولكن لا تبدو هذه المقاطع الثمينة ذات شعبية في وسط مخترق بكلمات الويل والثبور والتثبيط، لا تملك أي وجاهة في أعماق شاب تعوّد على لغة سلبية وخطاب قاتم، يعاقب الإنسان قبل أن يفكر في الخطأ.
أدمن الصديق هذا التقليد اليومي، الحقيقة أن هذا جزء من انبهاره بالتقنية التي أحالته كائنا سلبيا، الجميع تحول إلى خانة المدمنين للتقنية والغارقين في المقاطع السريعة، الفرق في تباين المحتوى بين كوميدي وديني ومجموعة غرائبيات لا يزيد إلا عبثا.
الوقت الذي يقضيه في ملاحقة هذه المقاطع وحرصه على قتلها مشاهدة، لا يصرف نصفه في تلاوة القرآن الكريم، مثلا، وهو أجدى وأوجب، ماذا لو انغمر في تدبر آيات القرآن الكريم وجرّب تفحص معانيه وآياته، بدل أن يعتمد على أثر المقاطع ومفعولها المؤقت، وعلى رأي الدعاة الذي لا ينتمي إلى ظروفه ولا يستقيم مع استعداداته.
المنهج المتين يحرّضك على خوض تجربتك الشخصية لتعميق تدينك، يدعوك لتعاني وتجاهد لتهتدي السبيل وتبلغ الطريق.
يحاول الصديق وعبر هذه المقاطع تنشيط فعاليته العاطفية المتصلة بمعاني التدين، يذكّر قلبه بتكاليف هذا التدين المتصل بمستوى التوتر، أكثر من اتصاله بالمعاني الراسخة التي تستقيم مع الفطرة وتطيب بها الحياة.
تقوم المقاطع بتنبيه العواطف الناعسة حتى تبقى مستفزة للوفاء بالواجبات الدينية، وتشده إلى مخاوف القبر وزبانية العذاب، كلما ارتخت أواصر العبادة واتكأت على رحمة الله وعفوه.
هذه الحالة لا تنتج إلا ضعفا للبنية وهشاشة في أرضية التدين التي تجري تحتها مياه مكتظة بالتعابير المختزلة والقناعات المضطربة، كما أنها متصلة بنجومية الأشخاص، يبزغ نجم داعية جديد يبتلع من سبقه، ويخلق نسقه المُوغل في التوتر، ويتفنن في صناعة أسلوبه التسطيحي لملاحقة الشباب وشراء اهتمامهم، ثم تنطفئ نجوميته وتذوي.
هناك الكثير من الأسماء الدعوية “المودرن” التي تبددت نجوميتها وانحسر حضورها بغياب الصرعات التي ركبت موجتها وتقدمت عبرها، بإمكانك أن تتصفح نماذج من تلك الموضات التي حققت لبعض الدعاة شهرة غير مختمرة وقيمة غير ناضجة.
(كلك حركات، مع نفسك، سِلفي…) هذه عناوين لكاسيتات لاقت رواجا في لحظة ما، كانت تكتظ بلغة بسيطة تصلح أن تكون في باب الدردشات والسواليف الاجتماعية البسيطة، ولكن لا يصح أن تبني في داخلك تدينا عميقا، ولا تصحح وضعا اجتماعيا مشتبكا ومعقدا. المحاضرات في لحظة الازدهار الوعظي كانت تقوم بهذه المهمة، يوم كان في الوقت متسع وفي النفس حماس لا يهدأ، ولكنها لم تحقق أي أرض صلبة للثبات عليها، كانت بمثابة معلبات جاهزة تحافظ على حالة الحماس والاتصال المتوتر بمعاني التدين لفترات متباعدة.
اليوم وتبعا لتبدل الزمان وضغط المشاغل وانحسار الحماس، جاءت المقاطع لإنقاذ الموقف والحفاظ على النفوذ.
خطب الجمعة تعاني من نفس البلادة والرتابة، لقد خسرت توهجها في زحمة المناسبات الوعظية التي تحاصرك من كل صوب، فقدت بريقها بعد أن كانت تشكل ثقلا اجتماعيا ودينيا مركزيا في حياة المسلم البسيط، وانسحب البساط من تحت منابرها التقليدية، إلى وسائط الوعظ الاستفزازي الجديد.
كانت خطبة الجمعة نافذة المسلم الأسبوعية لتذكيره بمعاني الآخرة وواجبه الديني، كانت تتخلل أيام سعيه للرزق، كانت القلادة في منتصف أسبوعه المكتظ بالعمل والسعي والكدح، قوتها في تنائي وقتها، ويوم ازدحمت منصات الوعظ غاب صوتها الهادئ المتواضع متحشرجا في حلق الأيام.
مشكلة هذا النوع من الوعظ العابر أن قيمته مرتبطة بشهرة صاحبه، حتى لو ساق معاني خاطئة وجنونية، بينما تختفي الكثير من الوصايا النبيلة والجادة لأن صاحبها مغمور وخامل الذكر، وهذا ربط شخصاني غير منطقي، ولا يحقق رؤية مكتملة ولا ناضجة.
كما أنه يجعل الشاب يعتمد، دائما، على مثير خارجي يجدد الإيمان في داخله، حتى كلما شعر بخمول العبادة وبرود الحرارة، استنشق بعضا من تلك المقاطع المتناثرة، واستعاد بعضا من وهجه الداخلي.
فضلا عن مساوئ الإغراق الوعظي الذي يألف معه الفتى مخاوفه وتفتر سخونة عبارات الترهيب والترغيب لكثرة ما سمع بها والتحم معها، فلا تعود عليه بالأثر الحقيقي بخلاف لو أنها تخللته في فترات متفاوتة.
يحاول الواعظ أن يقرّب بين الناس وربهم، ولكنه يخفق أحيانا، وفي تصوري أنه سيخفق دائما. الواعظ يقدم للناس تصوره هو عن الدين، وهذا لا يعني أن ما يقوله سيكون هو الصواب والحق، ولكنه مجرد اجتهاده الخاص وخبرته وعلمه وتجربته، ماذا لو كان يقدم أطروحة خاطئة؟ أو بطريقة غير لائقة؟ هذا وارد وبقوة.
الواعظ مثل كل شخص يشتغل على إنتاج أطروحات في أي مجال كان، يتأثر باستعداداته الشخصية وإمكانياته الفردية، والاعتماد على تصوراته المجردة ربما يورطك كثيرا.
تكاثر الوعاظ في مجتمع ما لا يعني، بالضرورة، أن هذا المجتمع متدين ومؤمن جملة وتفصيلا، بل يعني أحيانا أن تدينهم منفلت ويحتاج هذه الكثرة من الوعاظ لحمايته ورعايته، أو أن الوعظ مجال مربح اقتصاديا واجتماعيا بما يؤهل لهذا الازدحام غير المفهوم. وضع غير مريح على كل حال.
الأفضل أن يعتمد الإنسان على مجاهدته الشخصية للوصول إلى الله، جملة المواقف التي تتباين بين الفرح والترح، كفيلة بفتح خط اتصال عميق وحميم بين قلبك ومعاني التوكل على الله والاستئناس به، إن إقبالك عليه كفيل بفتح أبواب السماء والعلم والرزق والعناية الربانية.
لا حاجة لك بكل هذه الجنود المجندة من الوعّاظ ممن يخترق أنسك بالله، إن في كتاب ربك وسنة نبيك ما يكفيك ويشفيك، ما يحفظك ويحميك، ما يرشدك ويهديك، وعليك أن تفترش قلبك كبساط يستمطر رحمات ربك وأنواره، وتطرد خيالات الوعاظ وأوهامهم، التي تعبر فيما تعبر عن تجاربهم وقناعاتهم الشخصية. حافظ على عذرية تصوراتك، ولا تسلمها لأشخاص تحترمهم ذكريات الطيش وأيام الهوى وتختلط بأسمال تدينهم الذي يغلب عليه الحماس الأعمى، إن أوليّتك مستعدة لتحصل على المعنى النبيل والألطاف النابضة بالإيمان، الله أقرب إليك من حبل الوريد فلا تحتجب بقوائم الوعاظ الموتورين.
كن شجاعا وافعل ذلك، واستقو بقول العليّ الكبير (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَـا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) سورة العنكبوت 69.
كاتب سعودي
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق