ما يحرك غضب القيادة التركية على أبوظبي، ويدفعها لإلقاء تهديدات فارغة ضدها، وضد الرياض والقاهرة، ليس فقط لأن هذه العواصم تشكل ناصية مشروع عربي يقاوم للبقاء، أخذ موقعه المؤثر في معادلات المنطقة، بل هي تثير نقمة أردوغان أكثر لتشكيلها حائط صد ضد أهدافه الخبيثة ومحاولاته السافرة للتدخل في المنطقة.
الواقع أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان يستتر خلف آلة دعائية تروج لرمزيته وتشرعن أدواره في حوض المتوسط، قبل أن يكشف عن طموحاته الكبرى في قلب المنطقة العربية، ويبدأ في تنفيذ خططه جهاراً غير آبه بقيم الجوار، أو تقاليد الدين، أو الأعراف السياسية.
شرع أردوغان في إرسال مرتزقة عرب لقتل الشعب الليبي، وتوسع في احتلاله للأراضي السورية، بعد أن سهّل دخول داعش لها، ولم يبخل بالدعم على تنظيم الإخوان في اليمن، معرقلا جهود التحالف العربي فيها، ومقتحما بقواته الأراضي العراقية، ليقوم مؤخراً وزير دفاعه بتوجيه التهديدات لدولة الإمارات.
وعندما أضحى مكشوفاً، وسط بحر من التحديات والمشكلات، وبعد أن تعرض لخسائر متتالية، سلّ سيف نقده اللاذع وهجومه السافر على العواصم العربية، التي تبنت مشروع ممانعة، ضد الاختراق المتزايد لسيادة دول المنطقة، وتفتيت الإجماع العربي الذي يحميها من تمدد مشاريع إقليمية واجهتها على حين غرّة، وسط معمعة الربيع العربي، والغبار الكثيف الذي نتج عنه حاجبا وضوح الرؤية وجلاء المشهد.
كانت مصر جوهرة تاج مشروع أردوغان الإقليمي، وعندما تولت جماعة الإخوان زمام الأمور في القاهرة، بمعاونة دولته المغروزة في أحشاء المنطقة، تنفست أنقرة الصعداء، ولمعت في عيني أردوغان صورة الكعكة الكبرى، التي سينالها ليتوج مقيماً عاماً على المنطقة، قبل أن تشتعل ثورة 30 يونيو، وتذروه رياح الغضب الشعبي المصرية، الذي هب ضد انفراد الإخوان بالحكم، والدفع بالبلاد إلى حافة الارتهان لمشاريع إقليمية مؤدلجة.
لقد توسعت شهية أردوغان لابتلاع الفرص السانحة التي برزت من حولها، وراكم معها رصيد عداوات حوّلت حدود تركيا إلى خطوط من دم ونار وغضب. وستبلغ أنقرة في ظل أردوغان مرحلة من الإنهاك نتيجة التوسع الهستيري، بعد أن أغرته حالة الضعف والهشاشة في كثير من بؤر الصراع التي شارك في صناعتها وتأجيجها.
ولن يكون الظهير الإخواني، بكل مقدراته الدعائية، ولا قواعده الشعبية المنضوية تحت بريق شعاراته الوهاجة، ولا الأموال القطرية، كافيا لتحقيق مشروعه الأيديولوجي على أرضية صلبة أو منطق حقيقي.
لا شيء يبرر الآن التراجع في وجه المشروع التركي، مهما بلغت حدة التهديدات المرسلة، لأن خيار المواجهة الذي اتخذته كل من الرياض وأبوظبي، ودورهما في إنعاش القاهرة، والحفاظ على الحد الأدنى من التوافق العربي، مهم وضروري لصون المنطقة من اختراق المشاريع الإقليمية.
إنها مهمة تاريخية، وخط الدفاع الأخير ضد رغبات تصفية التأثير العربي، ويشكل تبادل الأدوار الذي تقوم به العواصم الثلاث، والذي ظهر جلياً في نشاط وزير الخارجية السعودي، لاستنهاض موقف عربي موحد، يطوق الأزمة الليبية، ويعيد فاعلية الدور العربي، خطوة مسؤولة وضرورية في هذا السياق.
تعليقات
إرسال تعليق