التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المنطقة تئن وبيروت تحترق

 

  •  الخميس 13 أغسطس 2020 - 08:11 GMT

عندما كانت الأحبار تسيل من مطابع بيروت يوم كانت القاهرة تكتب وبغداد تقرأ، كان حال الأمة العربية مشجعاً ومستقبل المنطقة واعد، وعندما تحولت تلك الأحبار إلى دماء والفضاء إلى دخان وأشلاء، أضحت المنطقة محتقنة وتوشك على الانهيار الكامل.

تعطي بيروت صورة مصغرة ولكن صريحة عن الوضع العربي العام، سويسرا الشرق يوم كانت المنطقة مقبلة على وجه الحياة، انفجر قلبها الآن من شدة اليأس، في مشهد مروّع يجهر المدينة المشلولة الشاحبة وهي تخسر أسباب الحياة رويداً رويداً.

بيروت واحدة من قائمة المدن والحواضر العربية التي كانت ذات يوم منارات العلم والثقافة والمعرفة والفكر، انضمت الآن إلى طابور المدن الشاحبة مثل جاراتها دمشق والقدس وبغداد وصنعاء وطرابلس، وبقية باقية من العواصم الجوهرية التي تعيش على الحد الأدنى من ضرورات البقاء.

كان مشهد الانفجار المدوّي بطريقة سينمائية يقفز من حافة المدينة، وكأنه زفرة صدر مكتوم، تجثم عليه هالة ثقيلة من الإحباط وركام من المتاعب والمشاق، قذفت كرة اللهب المتصاعدة والمحفوفة بغلاف الدخان المسموم بغبارها الهائل، لينسف هامات المباني ويقتلع السيارات وينقضّ بقسوة على الواجهات الزجاجية ويشوّه وجه المدينة.

كانت عيون العالم كلها شاخصة، تشهد على موت مدينة دفعة واحدة، العرب ينظرون بألم مكتوم وهم يشاهدون حاضرة أخرى تعلن هزيمتها المنكرة أمام وجع سياسي وعجز كامل يشلّ أطرافها ويمنعها الحياة.

بعيداً عن مشهد العزاء العام، وخطابات الرثاء التي اندلقت تعويضاً عن حالة العجز العربي، بدأت تتواطأ أخبار وتتسرب أنباء عن كون الانفجار نتيجة فعل مدبّر، وبكل الأحوال، أكان نتيجة طبيعية لوحل الفساد والإهمال والتسيب الذي لا تنكره بيروت أو تجهله، أو هجوماً خارجياً، فإن العامل السياسي متورط بالواقعة.

وُضع لبنان على خط النار دائماً، ارتهانه أخيراً لمحور زعم المقاومة، والمغامرة بمستقبله واستقراره الهش وتركيبته المؤهلة للانهيار، لترجيح كفة لاعبين إقليميين، جعل من الانفجار مجرد مشهد تفصيلي صغير ضمن إطار اللعبة الكبرى التي تورط فيها لبنان.

صنعاء وبغداد والواقعتان هي الأخرى تحت نير المعادلات الشاقة وعلى أهبة الانفجار في وجه أهلها خدمة للراعي الإيراني في طهران، تحسستا مواقع النار النائم في أكنافها، وأحزمة الذخائر المحشوة في أطرافها، خشية من تكرار سيناريو مرفأ بيروت، تنادت لتفحص مواضع الخطر والشرر التي يمكن أن تنطوي على فرص لقتل ما بقي من روح البلد الذبيح والمسجى على شفا الموت النهائي.

هدايا المرشد القاتلة، وأجواء الإحباط الماثلة في كل المدن والعواصم العربية التي تئن من وطأة الملالي وسيطرتهم على مقاليد الأمور في بلادهم، يرغم شعوبها على دفع فاتورة باهظة ومكلفة.

يمثّل لبنان حالة فشل عربي تتكرر لدى الكثير من جيرانه في هذا الشق من العالم، فشل داخلي بالعجز عن إنتاج حالة سياسة مثمرة وفعّالة، وفشل آخر خارجي، بالسلامة من لعنة المعادلات الإقليمية والارتهان للحسابات الدولية، عجز وفشل معجون بالفساد ومركبات الشلل الحكومي والقصور والإهمال والتسيب.

عندما هتفت جماعة من الناقمين للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ووقعوا على عرائض لعودة الاستعمار، كان موقفاً انفعالياً لكن كافياً لإثبات حالة العجز واليأس والتوقف عن ابتكار الحياة في نفوس اللبنانيين، البلد الذي دفنت في ترابه عظام العربية الفصحى، ومنه جأرت القومية العربية بصرختها، وجزّت فوق مقاصله رقاب رواد النهضة الأولى ضد انفراد العثمانيين وبطشهم، أصبح نهباً بين رايات صفراء تهتف لإيران، وحناجر ثكلى تتضاغى لعودة الاستعمار.

مثّلت سيطرة ميليشيا حزب الله على مفاصل لبنان، نهاية فصول بلد يقاوم للحفاظ على استقلاله، يكابد للوقوف على محجة الاعتدال في موقفه، بمنأى عن خدمة أجندة الآخرين أو الانضواء في مشاريعهم الأيديلوجية، لكن الحزب بكل صلفه حول شباب البلد إلى مشاريع للموت في جبهات الآخرين، ولفّ مستقبل البلاد بكفن سرمدي يجهزه للتلاشي الكبير والانمحاء العظيم من خارطة الوجود.

الواقع أن بيروت تدفع ثمن كل الأخطاء التي جرت على أرضها، وأكثرها فداحة هو سيطرة وتحكم حزب موتور يدار بأيادٍ خارجية، مكرهة على ذلك غير راغبة، ستدفع بيروت تكلفة اللكمات والضربات الاقتصادية والسياسية وربما العسكرية بالوكالة، سيستنزف هذا من رصيدها في الحياة، وسيقربها أكثر لإعلان الموت النهائي، بعد أن اكتسبت على وقع الفاجعة الأخيرة صفة مدينة منكوبة، يا للعجز.


الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...