لا تعبر هذه المؤسسات المتعاضدة لمواجهة آفة التطرف، عن هوس في إطلاقها والاستعراض بأسمائها، ولكنها استجابة واعية لتبلور هذه الآفة التي بلغت شأوا مؤسفا من العنف والدموية واستنزفت الكثير من عمر الأجيال العربية والإسلامية.
الخميس 2019/04/04
منذ أن اكتوت المملكة العربية السعودية، دولة ومجتمعا، بويلات التطرف الديني وما نتج عنه من الأحداث المأساوية منذ مطلع التسعينات، وامتد حتى نهاية 2006 وعاد إلى نشاطه أعقاب ثورات الربيع العربي وتداعياتها السلبية على المنطقة، اختارت الرياض البدء في عملية صعبة وملحة لإصلاح العطب الفكري الذي تسبب في انخراط ثلة من الشباب السعودي في مشاريع العنف والاستسلام لسرديات التشدد والغلو.
لم يكن أحد من المعنيين، ينتظر نتائج سريعة، لأن عملية تصويب الفكر وضبط آلياته ومنتجاته تستغرق عادة فترة طويلة، إذ يلعب الزمن دورا فاعلا محوريا في عمليات المعالجة والبناء التأسيسي لكل أرضية ثقافية جديدة، لاسيما إذا كانت مرحلة الإصلاح تسائل وتلامس ما رسب في خلفية المجتمع وبناه العميقة في ما أصبح متصلا بهويته وراسخا في أطره التعبيرية المتماسكة.
قررت السعودية خوض المهمة للنجاة من تكرار المأساة، وكان من أشد ما يواجهها من التحديات، هو الطبيعة الانهيارية التي تقاسيها الجغرافيا العربية منذ أن انفرط عقد الاستقرار بالانتفاضة الفلسطينية، فأحداث 11 سبتمبر 2001، ثم بوابات الجحيم التي فتحت سبيلا ظلاميا طويلا من العراق وأفغانستان، وبقية السلسلة المريرة من المناسبات والأحداث التي قدمت خدمة جليلة لحيوية العنف وتوفير الملاذات التبريرية والمادية له.
وكانت السعودية وجملة من الدول العربية والأجنبية تتحمل أعباء النتائج الوخيمة الوافدة من بؤر الصراع والشهية المفتوحة للانفلات، وكان بمقدور تلك الفرص الملتهبة بالمأساة أن تقوّض كل جهود الإصلاح وإطفاء الحرائق، وتثبّط فرص معالجة البنى الفكرية المنتجة للذهنيات القابلة للانخراط في مشاريع العنف والتشدد الدموي.
كانت السعودية تطور آليات المعالجة، تبعا لتبلور “المسألة المتطرفة” التي تواكب قدراتها التوليدية على إنتاج نفسها في أشكال أكثر تحايلا، تلاحق نسخها المحدثة في بنيتها الفكرية وتمظهراتها المادية، ولذلك كانت السعودية تبذل كل الجهد من واقع شعورها بمركزية أدوارها في التأثير على المنطقة عموما، ومن وحي مسؤوليتها القيادية لتجديد الواقع الديني الذي يلتقي مع تاريخها وجغرافيتها، وحمولات ذلك على دورها وكينونتها وصورتها لدى العرب والمسلمين والعالم أجمع.
بدأ الأمر مع حملة السكينة التي كانت رديفا للعملية الأمنية الواسعة التي اتخذتها السعودية لردع الخلايا الإرهابية، حيث انتبهت الرياض لأهمية محايثة الجهد التوعوي الناعم للقبضة الأمنية الغليظة.
حملة السكينة للحوار هي حملة سعودية تابعة لوزارة الشؤون الإسلامية تقوم بالحوار مع أصحاب الفكر المتطرف ومن لديهم ميول نحو تأييد الأعمال الإرهابية. وتقوم فكرة الحملة على الانتشار في مواقع ومنتديات ومجموعات الإنترنت والحوار مع المتطرفين الذين يكتبون بأسماء مستعارة على شبكة الإنترنت، وذلك عبر فريق عمل مختلف التخصصات، يحقق بتكامله أهداف الحملة عبر الوسائل والأساليب المناسبة والمؤثّرة .
كما استحدث مركز باسم الأمير محمد بن نايف، وهو مركز رائد في مكافحة الإرهاب في العالم، لمناصحة الشباب المتحفظ عليهم أمنيا لأسباب فكرية غير جنائية، وكانت له آثار إيجابية ومهمة في الإطار العام لخفض تنامي حالة التطرف في البلاد.
لكن السعودية ارتأت بفضل خبرتها في مواجهة الفكر المتطرف، أن الوقاية خير من العلاج، لتبدأ تبني فكر إصلاحي عام يعالج الكثير من روافد التطرف التي تبطل مفعول المعالجات اللاحقة، وتؤسس لوعي اجتماعي لا بتساهل مع شروط التطرف، وشرعت- رغم حساسية الخطوات أول الأمر- في بث روح التسامح وقبول التعدد والأخذ بسعة الخيارات الشرعية التي كانت مغيّبة استجابة لواقع قديم استنفد أغراضه وعجز عن الاتصال بالمجتمعات المعاصرة وقيمها المختلفة.
ولزيادة فعالية الجهود، تحولت الخطوات من الارتجالية إلى بنى مؤسسية راسخة، الأمر الذي يوفر لها الديمومة والتطور والمواكبة، ومنها الإدارة العامة لمكافحة التطرف التابعة لرئاسة أمن الدولة، وقد وضعت استراتيجيات وبرامج محترفة في مكافحة التطرف ومعالجة ظواهره باستخدام الأساليب المنهجية الحديثة المبنية على الدراسات والبحث العلمي، في نهج تكاملي فاعل مع المؤسسات الحكومية والأهلية على اختلاف مجالاتها.
وأنشئ معهد الأمير خالد الفيصل للاعتدال بجامعة الملك عبدالعزيز المهتم بتأصيل منهج الاعتدال ونبذ التطرف بكافة أشكاله، وبناء الفكر المعتدل وإنتاج المعرفة عبر برامج تعليمية نوعية، ودراسات بحثية متميزة، وشراكات مجتمعية فاعلة لرفع وعي المجتمع تجاه الأفكار الضارة بكيانه واستقراره كالإرهاب والتطرف والغلو بكافة أشكاله.
كما أخذت هذه الجهود طابعا عالميا وتشاركيا يستفيد من تجارب الآخرين ويمدهم بمنتجاته الفاعلة في الحد من ظواهر العنف والتطرف، ويقوض كياناتها وجماعاتها المعولمة والعابرة للحدود.
من ذلك المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف أو مركز اعتدال، وهو مركز عالمي مهمته مكافحة التطرف واجتثاث جذوره تم تأسيسه في 21 مايو 2017 خلال انعقاد قمة الرياض 2017 ويقع مقره في العاصمة السعودية الرياض.
ومركز الحرب الفكرية، وهو مركز عالمي يتبع وزارة الدفاع السعودية، ويختص بمواجهة جذور التطرف والإرهاب، وترسيخ مفاهيم الدين الحق، ويرأس مجلس أمنائه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
لا تعبر هذه المؤسسات المتعاضدة لمواجهة آفة التطرف، عن هوس في إطلاقها والاستعراض بأسمائها، ولا رغبة في التكاثر بها، ولكنها استجابة واعية وحاذقة لتبلور هذه الآفة التي بلغت شأوا مؤسفا من العنف والدموية، واستنزفت الكثير من عمر الأجيال العربية والإسلامية، لاسيما وأن عددا من الأطراف الحركية والعواصم المؤدلجة، ترعى بذرة التطرف وتحرص على توظيفها واستخدامها لخدمة مصالحها الضيقة، واستهداف السعودية بالتهم الجوفاء وتحميلها أوزارا تاريخية وأعباء الصدفة الجغرافية.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق