نشر في : الثلاثاء 9 سبتمبر 2014 - 07:14 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 9 سبتمبر 2014 - 07:14 ص
أقلام حرة : عمر علي البدوي
أقلام حرة : عمر علي البدوي
” إذا كنت ستشم بين السطور أي نفس طائفي، فهو ليس أكثر من صورة تقريبية للواقع المتأزم والمحتقن، إذا كانت الصورة فنياً هي حصيلة حبس جزيئات في لحظة ما، فإن المقالة هي نتيجة لقطة ثابتة لمشهد حقيقي “.
حسب خبرتي التاريخية الطرية، فإن المنطقة العربية لم تشهد حالة من الاضطراب والتذبذب السياسي كما تشهدها الآن، الدماء تسيل في جملة من البلاد العربية والإسلامية، والقلاقل ما إن تهدأ في طرف ما حتى تنشب في أطراف جديدة وكأنها تنشطر إلى بؤر جديدة من الصراعات والالتحامات البارودية.
تهاوت أنظمة عربية عتيقة كانت راسخة في باطن الأرض، وأخرى اضطربت بعد أن كانت نائمة على طبقة من الرماد المتحفز، حالة من التشابك الجيوسياسي يربك الحسابات والمعادلات، وقلق منظور على مستقبل سايكس بيكو الجغرافية، وكأن الدول العربية وشعوبها تبني شرق أوسط جديد من رحم الفوضى الخلاقة.
وسواء كان هذا من نتائج القدر البحت، أو من افتعال القوى المتنفذة وأجهزتها الاستشعارية، فإن المنطقة وشعوبها ترفع طموحاتها السياسية الضيقة على أسنة الرماح ولا تلوي أن تتنازل عنها، كل الانحباسات التاريخية للأقليات العرقية والمذهبية انفجرت في لحظة عائمة لها ما بعدها، وستدفع المنطقة إلى مشهد جديد ومستقبل يكتنفه الغموض أكثر من جلاء الحقيقة القاطعة.
والشيعة بوصفهم النصف المجايل للأغلبية السنية من تعداد المسلمين يتربعون على أكثر الأطياف المذهبية نشاطاً في المشهد السياسي الراهن، ويشتغلون على طموح للمستقبل مبني بوضوح على مزاحمة السنة وإلغائهم إذا لزم الأمر، يتجه الشيعة إلى تحمل مسؤولية صدارة المنطقة وتسلم زمام الراية بعد أن انحسر دور القوى السنية دولاً كانوا أو جماعات.
الشيعة الذين تجسد مشروعهم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بثورتها الخمينية التي تتقافز من حدود بلاد فارس إلى كل البقاع التي تحمل على ثراها شيعياً ناجزاً أو آخر على أهبة الإعداد في أفريقيا والقوقاز وغيرها، ويملكون أحزاباً سياسية فاعلة في محلياتها، أو ميليشيات مسلحة تدك حصون الاستقرار لتبني أركان الطموح الكبير بشرق أوسط يخضع للمنطق السياسي الشيعي الجديد.
العراق أكثر صور المشهد وضوحاً، تسلمته إيران على طبق حسب وصف أقدم سياسيي السنة، وتركت إدارة البلاد لحزب سياسي شيعي صرف بعد تنحية أي دور للسنة هناك، جاء ذلك بدفع من الاستراتيجية المخلبية للحرس الثوري والحنفية الجهادية السورية أو عبر صفقة أمريكية إيرانية طبخت دون أن يتدخل عربي سني واحد في معرفة المقادير أو المشاركة فيها.
في اليمن يبدو الحراك الحوثي مؤخراً فاقع إلى درجة الإزعاج، يظهر عبد الملك الحوثي لتلاوة إملاءاته على الحكومة المستضعفة، يمد يده الناعمة في شوارع صنعاء للضغط على الحكومة ويغرز كفه الحاد في خاصرة اليمن ليبتلع المزيد من الأراضي، بينما يفقد العرب السنة أي تأثير في الواقع، ويقبعون بكل برود في جب الإهمال والعطالة، حتى أبسط محاولاتهم للمواجهة يختصمها تنظيم إقليمي يطارد الإسلام السياسي في كل مكان.
في لبنان لا صوت يعلو على غطرسة حزب الله، وسعد الحريري انحسر تماماً عن أي تأثير في المشهد اللبناني لأنه لا يملك سوى خطاب سياسي حالم وواقع مقلم الأظافر، حتى لو كان يملك دعماً دولياً متميزاً لكنه على الأرض لا يلعب دور المؤثر أو الموازن، حزب الله يتمدد في عروق لبنان ويقفز إلى الجوار السوري ليرد جميل النظام ويحافظ على وجوده الاستراتيجي في المنطقة، يستخدم في سبيل ذلك كل المخزون التاريخي الذي اكتسبه من مقاومة إسرائيل.
في سوريا ما زالت الأقلية الشيعية تحافظ على مركزها الحاكم لإدارة الأغلبية السنية، الدعم الروسي والإيراني الصريح للمليشيات والنظام الدموي لا يقابله إلا الإقتار في دعم المعارضة السورية المعتدلة، والحماس الدولي والإقليمي لمحاصرة المنظمات السنية المتشددة، وهذا يدفع المسألة السورية باتجاه المنطق الشيعي لحلحلة العقدة التي تمضي في عامها الرابع.
الإخوان المسلمون بوصفهم منظمة سياسية سنية تقريباً تلاحق في كل مكان، حتى الدول التي لم تظفر بشيعي على أراضيها، لا يرضى التحالف الإقليمي بتسنم الإخوان لسدة حكم البلاد أو احتكاكهم بمقاعد السلطة ويمنح المقعد بدلاً عنهم لرموز شيعية تمد جسور المشروع الإيراني وتزيد من حمم الملاحقة الإقليمية لرموز الحركية السنية وهذا يتضح في الكويت أحياناً، ولأن تهديد المنطق السياسي الشيعي الجديد يزداد زخمه في البحرين، عاجلت القوى الخليجية لاحتواء الأزمة التي تزامنت مع الثورات العربية، لكن أثر المعالجة هناك لا يرقى إلى مستوى التأثير في الواقع، حتى تأجيل الخصومة مع إخوانيي البحرين لا يحقق الجدوى الكاملة.
في غزة يواجه الفلسطينيون عنجهية المحتل الصهيوني وتحفظ القوى السنية عن دعم مقاومة حماس بدعوى إخوانيتها وشغبها بينما يصرون على الذهاب بخيار المفاوضات الفتحاوي إلى أوج الدعم والتأييد رغم نتائجة المتواضعة، مما دفع حماس على أن تيمّم وجهها شطر طهران وتحجم عن قبلتها الأولى، مما عرّض القضية الفلسطينية ومقاومتها لفرص الانتهاز والتوظيف السياسي الرخيص.
هذا الإدبار الذي تتبناه القوى السنية في المنطقة يحرّض السودان للارتماء في أحضان الجمهورية الإسلامية في قم، ويفتح حوض النيل الأزرق للدعاية الإيرانية بكل حمولاتها السياسية الملغومة، الأمر نفسه يجري في التحالفات الاضطرارية التي تبرمها قطر وعمان وتركيا مع السياسة المعممة.
كل هذا الاستضعاف السني الذي تسبب فيه تحفظ الدول السنية الصريحة، وانسجام المجتمع الدولي مع سياسة الأمر الواقع التي تفرضها القوى الشيعية المسلحة والسياسية يعطي مزيداً من التبرير لمنظمات متشددة مثل ” داعش ” التي تتغذى من المظلومية السنية الجديدة التي ينكشف لها جرح جديد في كل وقت ومكان.
نجاح إيران في فرض مشروعها السياسي في المنطقة وتسويقه لقوى المجتمع الدولي واستخدامها كل الوسائل الناعمة والحادة لبسط إرادتها، يقابله قصور في القوى السنية التي ينتظر منها تحركاً معادلاً ومشروعاً موازناً يستخدم كل أوراق العمل السياسي المتفق عليها، ولكنه محجمة إلا من أساليب العمل السياسي المتحفظ والمتباطئ مما يرجح كفة المنطق السياسي الشيعي الجديد.
الحفاظ على الاستقرار وسلامة المنطقة وفرض الهدوء لا يتأتى من سياسة ” الطبطبة ” والمجاملات والمسايرة وبذل المزيد من التنازلات لإرضاء طموح القوى الإقليمية وإرواء تعطشها لابتلاع المنطقة، لكن الاستقرار بناء متماسك يخلقه دعم التوازنات وحماية الأقطاب الثنائية وتمويلها بالأدوات المؤثرة مما يدفعها جميعاً للتراضي على سياسة تجمع ولا تفرق والحفاظ على وجودهما بالاتفاق على إطار جامع يحمي الحقوق ولا يلغي أحداً دون الآخر.
كما إن الاستمرار في الامتناع عن تطوير الأنظمة السياسية للمنطقة يخلق المبرر لمشاريع التجزئة واستغلال المظالم العرقية والمذهبية لشراء الولاءات وتوزيع القلق في بؤر المظلوميات المحلية، حتى دعم جيوش المنطقة بحجة حماية أركان الدولة لا يحفظ استقرار الدول ولا يحمي من مشاريع الاختراق الإقليمي إذا لم يتزامن هذا مع مشاريع لتطوير البنية السياسية باتجاه الدمقرطة وضمان مشاركة شعبية سلمية وفعالة.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق