كلنا رأى ذلك المدرج الذي لفظ مشجعاً لا ينتمي إلى لونه ، كانت الأمور لتتطور إلى أبعد من ذلك لولا ستر الله ، وقبله مشاهد حرق التذاكر بغرض التضييق على مشجعي الخصم ، والمعلم الذي زف مشاعره المتعصبة إلى طلابه في لحظة الاصطفاف الصباحي وسوى ذلك من المواقف التي تحفل بها الأيام كصورة قاتمة لملامح التشجيع الرياضي .
هنا تنتقل معالم التعصب التي تسكبها شاشات البرامج الرياضية في أذهان الشباب ، تحقنهم بكيمياء التنافس المحموم ، تحاول البرامج أن تتناهش الشعبية والجماهيرية عبر أيقونات الضجيج الحلقي ومنطق الحنجرة الجهورية ، تنقل المباراة من حدود المستطيل الأخضر إلى باحات التدافع الجماهيري بألوانه الحادة .
تبحث هذه الفضائيات عن ضيوف يرفعون إيقاع الحديث ، يشدون إليهم المشاهدين ، ويكاثرون به المتابعين في ظل الفرص المتزاحمة من البرامج التلفزيونية المتراكمة ، وتغيب الحقيقة في قبضة التعصب الأهوج ، ويحتجب المنطق تحت غربال التحليل الذي خسر موضوعيته بصبغة لون داكن .
التعصب للألوان يسحب الأضواء من ملعب المنتخب الوطني ، تقلل من حميمية الانتماء ، تحرّض على التفسير المبتسر لاختيارات المنتخب ، تشاغب على الطموح الوطني في ميادين الخليج وآسيا والعالم ، يخفت الشعور العمومي بالحاجة إلى منجز وطني نفاخر به ، ويختصر المنافسة ولذتها في مجرد الثنائيات الضيقة على الملعب المحلي .
أصبحت الرياضة لدينا مشدودة إلى معاني غير جوهرية ، وفرغت الذائقة الجماهيرية من حساسية الاستمتاع بالكرة والفنيات إلى التشنج للمواقف ، من التصفيق للفوز والفرح والانتصار إلى الفوز لاستفزاز الخصم وتلاوة معلقات " الطقطقة " على الآخرين .
هذا الاتصال الموتور بالرياضة تحول إلى اللاعبين أنفسهم ، يستدعون إلى حفلات الاستفزاز الفضائي ، بعدما أصبح التطاحن على الهواء أكثر شعبية وجماهيرية من الإجادة في الملعب ، وأصبحت المباريات والنتائج لا تنتهي عند صافرة الحكم ، بل تكون الصافرة إيذاناً بانطلاق مباراة أخرى على أوراق الصحف وعلى جناحي طائر تويتر الأزرق ، عمرها أكثر من التسعين دقيقة البلهاء تلك .
وهكذا يعاجل الإعلام في نسج متتالية المشاغبات ، يبحث عن أقل فرص الشذوذ والمشاحنات والالتحامات الكلامية والبدنية المتشنجة ، ليسرف في توسيع رقعة المشكلة حتى يعجز دونها الراقع ، وهكذا تذهب الرياضة بمعاتيها الجميلة ومبانيها الأصيلة إلى جب التعصب الأعمى .
لا أحد يمنعك من التعصب لفريقك ، فهذا غاية الذوق والوفاء ، ولكن خلاف الذوق أن يكون من شروط تعصبك أن تلغي الآخر ، بخلاف المنطق أن تخسر لذة المرة الجميلة وتنغمس في الكراهية حتى أذني رأسك ، طور انتماءك للكرة الجميلة ، ولا تجعل الانتماء لفريقك المفضل مثل محبس يمنعك من الاستمتاع .
التعصب الأمثل هو الذي يحتضن الفريق ويدفعه بالتشجيع والمؤازرة إلى مصاف النجاح وللتنافس على صدارة المسابقات ، الجماهير ضلع هام في مربع الرياضة الناجحة ، ولكن انحراف الجماهير من حيزها إلى فضاء التعصب العبثي يحولهم إلى قنابل موقوتة في جسم الوطن الكبير .
تعليقات
إرسال تعليق