تحاول الجهات الحكومية محاصرة الفكر المتشدد الكامن، ومراجعة مواقف الدعاة والأئمة وملاحقتهم بقرارات الإبعاد والإعفاء.
العرب عمر علي البدوي [نُشر في 09/09/2014، العدد: 9674، ص(9)]
أصبحت “ما بعد” لازمة ثقافية وعلمية لكل حدث عميق يعصف بمجتمع ما، والصحوة في التاريخ الاجتماعي والثقافي السعودي لحظة فارقة كان لها ما بعدها، لقد تركت الصحوة آثارا عميقة في البنية الذهنية والسلوكية للمجتمع لا يمكن أن تمّحي بسهولة، كانت موجة هادرة غمرت جيلا كاملا أصبح مأخوذا الآن بنتائجها السلبية أو الإيجابية على حد سواء.
الصحوة كانت مكونا علميا وتوجها هوياتيا ضُخ بكثافة في منتجات ورموز اجتماعية وثقافية، وكانت لها غايات دينية وطموحات سياسية، بمعنى يجعلك ترى الصحوة تحيط بك من كل جانب، ورغم مستوى الاعتداد بمرحلة الصحوة من قبل مناصريها إلى درجة الهوس، وما يقابلهم من الهجوم العنيف إلى مستوى العداء وإهمال الحياد، إلا أن المرحلة تحتاج تفحصا موضوعيا، سيما من جهة آثارها اللاحقة.
انخفض زخم الصحوة، من جهة سيطرتها على منابر التأثير في المجتمع، ومن جهة انفضاض المناصرين لها إلى قطاعات أخرى وتوجهات مضادة أحيانا، ومتخففة من حمولات الصحوة الحادة أحيانا أخرى، ومع توسع منصات الإعلام الاجتماعي التي أصبحت تنقل جزءا من حقيقة الواقع الذي كان متواريا زمن الصحوة وراء منابر إعلامية أحادية تنزف استقطابا ويحتكرها الصراع الأيدولوجي، مما جعل أذواق الناس تختفي إلى درجة تظن معها انعدامها وغيابها.
اتخذت الحكومة مجموعة من التدابير ربما تسهم في تخفيف التشدد من الذهنية الاجتماعية، عشرات آلاف الطلاب يُبتعثون خارج البلاد في مناطق تعيش حالة نموذجية من الانفتاح والتعايش السلمي ستترك آثارها على الجيل الراهن بعد حين، رغم كل المحاولات المستميتة لتسييجهم ثقافيا وذهنيا من قبل بعض المكونات العتيقة، وسيعمل هذا الخيار الجريء على توسيع الأفق السياسي لهذا الجيل، ويلهب طموحهم لتطوير مشاركتهم في مستقبل البلاد بما يزعج السائد ويحرك المياه الراكدة. كما أن المناهج المدرسية تقع في القلب من معركة التغيير التي يلوي عليها السعوديون، وما زالت مسألة اختطاف التعليم من قوى التشدد تتلجلج في ميادين النقاش الرسمية والأهلية، ولكن المكوّن العلمي لم يحصل حتى الآن على حقه من المناهج، ولم يزاحم سواه من المجالات التعليمية الأخرى.
المرأة التي حجّمت الصحوة من دورها وفاعليتها، أصبحت أكثر ثقة وجسارة على اقتحام المجالات القيادية والشوروية، جاءت الخطوة على علاتها بمبادرة من قبل الدولة، تجاوزت بها كل المغاليق التاريخية والحواجز الثقافية، وجعلتها رقما صعبا في مجلس الشورى والمجالس البلدية المحلية.
منابر الخطابة الدينية والتجمعات الدعوية ما عادت متاحة بإطلاقها كما كانت من قبل، تحاول الجهات الحكومية محاصرة الفكر المتشدد ومراجعة مواقف الدعاة والأئمة وملاحقتهم بقرارات الإبعاد والإعفاء.
الخصم التقليدي للصحوة الذي حافظ منذ سنوات على المنابر الصحفية بتوجهها شبه الليبرالي، ما زال يوجه ضرباته الموجعة لما تبقى من قلاع الصحوة، رغم أن المواجهة الليبرالية تذهب إلى الاستفزاز الحاد، بما يلغي فاعلية النقد الموضوعي للتشدد الديني وأثره الإيجابي في تطوير الخطاب الدعوي.
عملت الليبرالية على إلغاء الآخر الصحوي، ربما جاء هذا كردة فعل على حدة الموقف الصحوي من أفكار المجايلين لها، ولكن الليبرالية جفلت عن مبادئها التعددية الواسعة واندفعت في اتجاه التدافع الصفري وطفح عندها منسوب التشويه والإقصاء، كما أن الليبرالية تكثفت في المجال الاجتماعي الضيق بناء على فرص الحراك المتاحة، تماما كما فعلت الصحوة.
الانشقاقات في المدرسة الصحوية نفسها، ساهمت في تفكيك الزخم الصحوي على المجتمع، وبلغت المواجهات مع عهد التحولات الفكرية إلى أقصى اليسار درجة جنونية من التنابز والتخاصم، وظهرت فجوات في جسد الصحوة أتاحت فرصا للخروج من إطارها في اتجاه التخلق الذاتي بعيدا عن التأثير الوصائي والمشيخي، ونمت على أطراف الخلاف توجهات معتدلة تشتغل على النقد والمراجعة وأخرى متمنعة أسرفت في الثبات على قواعدها التقليدية حتى طمرها تراب البناء الجديد للجيل الراهن. حاولت بعض الأيقونات الصحوية أن تحافظ على حضورها الجماهيري وتوهجها البراق، دفعتها المعاصرة إلى توظيف الوسائط الحديثة والتخفيف من حدة الخطاب والانثناء لمتطلبات العقلية الطارئة، التصقت بالمطالب الشعبية البسيطة وتراجعت عن خصوماتها الفكرية والأيديولوجية، وتخلت تقريبا عن عمقها العلمي والشرعي الذي أصبح حكرا على الأوساط الطلابية المغلقة.
استعادت بعض التيارات العروبية واليسارية وهجها التاريخي، وحاولت أن تستعيد حضورها في الطرح الثقافي والفكري للمجتمع السعودي، بعد أن زاحمتها الصحوة وهاجمتها بضراوة واستخدمت في ذلك كل أساليبها المؤثرة فكريا ودينيا وسياسيا.
بينما تلبّس اليسار بعض الناشطين الإسلاميين وقدموا مقارباتهم لمسائل التنمية والنهضة وحل إشكاليات الأمة والمجتمع، ولكن حضورهم طفيف ولا يرقى إلى مستوى المنافسة الجادة، وبقي محصورا في إطار الاختيارات الشخصية التي لم تخلق قواعدها الشعبية أو تعبئ حضورها الاجتماعي.
الحزام السياسي الذي يحيط بالمنطقة والقلق والاضطراب في الشرق الأوسط يخلقان مناطق صراع وبيئات التحام عنفي، سيما إذا اصطبغت الصراعات بلون ديني حاد وحالة مذهبية متطرفة، فإن زمن الصحوة يعود إلى السطح مجدداً في ظل تدفق بعض السعوديين إلى مناطق الصراع، وتعاطف قطاع من الشباب مع جهات تكفيرية مشبوهة.
وما زال السؤال حائرا في مدى مسؤولية الصحوة عن إنتاج عشرية الإرهاب على البلاد السعودية، ورغم أن الإرهاب يتغذى من دوافعه الدينية التي أنتجتها الصحوة ولكن العنف السياسي عادة يكون نتيجة لظروف سياسية موضوعية، وترتفع شعبية العنف الديني كلما انخفض مستوى الأمل في حلول سياسية مما يذكر بمسؤولية الطيف السياسي عن معضلة الإرهاب، تماما، كما يتورط في دمائه الطيف الديني الحركي.
كاتب صحفي سعودي
الرابط :
http://www.alarab.co.uk/?id=32535
تعليقات
إرسال تعليق