تفرض الأحداث الأمنية المتفرقة التي تقع في الخليج العربي، ضمن مياهه ويابسته، والتبدلات الاستراتيجية التي تضطرب في محيطه الإقليمي، والمعادلات الحرجة التي تتشكل على المستوى الدولي من تمحور مستمر لما كان مستقراً وثابتاً، اتخاذ موقف نظري وعملي يواكب المخاطر المحتملة ويراعي الظروف المرتجلة.
وقع الأحداث المتفرقة في مياه الخليج والبحر الأحمر والمضايق والحرائق الضخمة في ميناء كنارك الإيراني المطلّ على بحر عُمان، والألغام البحرية في اليمن، واعتراض كميات السلاح المتجهة إلى الكويت، شكلت إنذارات لا تهدأ محذرة من سخونة الأجواء في المنطقة، وضرورة احتواء حالة التوتر فيها، عبر إيجاد حلول للتفاهمات المتعثرة بين دول وعواصم المنطقة، باستعادة الثقة بينها والتوقف عن مغازلة أحلام المشاريع التوسعية غير المنطقية، قبل أن تبتلعها حرب مفتوحة لا تبقي ولا تذر، تورد دول المنطقة في مزالق الخراب، وتعيد مستويات التنمية، التي تتمتع بها دول الخليج العربي خاصة، إلى نقطة الصفر.
ترافقت هذه الأحداث مع مجموعة من التصريحات المتزامنة لأطراف تعتبر معنيّة باستقرار المنطقة وتثبيت أمنها وتجنيبها مخاطر الانزلاق في المجهول، فقد شدد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على التزام مصر بموقفها الثابت تجاه أمن الخليج، بوصفها امتدادا للأمن القومي المصري، ورفض أي ممارسات تسعى إلى زعزعة استقراره، أثناء لقائه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي في القاهرة، حيث تناولا عدداً من ملفات المنطقة، وأبرزها أمن البحر الأحمر والأوضاع في سوريا واليمن وليبيا والقضية الفلسطينية.
من جهته وخلال مشاركته في منتدى “حوار المنامة” في نسخته 16 قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، إن بلاده ملتزمة بتعزيز الأمن الخليجي ضمن مجلس تعاون أكثر تكاملاً، وتكريس إطار تعاوني قوي لدول الخليج العربية كما يراد لها.
الأمر الذي جدد التأكيد عليه رئيس وزراء الكويت الشيخ صباح خالد الحمد الصباح بأن “أمن دول مجلس التعاون الخليجي كل لا يتجزأ”، في كلمته أمام الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمة، وقال “نشهد مرحلة هامة تتطلب تعاونا وتحملا للمسؤولية”.
منذ حرب تحرير الكويت التي شهدت دوراً تقليدياً لمصر في الوقوف إلى جانب الخليج في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك الذي استمر في علاقة مثالية من خلال الالتزام بمقاربة أمنية وسياسية مع دول الخليج لا يخلو منها الخلاف، دون المساس بجوهر التنسيق على المستوى الأعلى في طبيعة العلاقة.
وكذلك هو الحال مع زيادة منسوب الدور الأميركي في المنطقة، إذ مثلت حرب تحرير الكويت أفضل أشكال التفاهم والتعاضد السياسي، وتطابق وجهات النظر في بلورة مفهوم المخاطر والتعاطي معها، لكن الكثير من المياه كانت تجري تحت سطح هذه العلاقة.
غيّرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر مزاج النخب الأميركية تجاه المنطقة، واندفعت واشنطن إلى غزو العراق، وتسبّب غياب مشروع واقعي للخروج بالبلاد من حالة الانهيار إلى الإعمار، في استثمار إيران حالة العجز وربما التواطؤ الأميركي.
واستطاعت طهران تحقيق تموضع استراتيجي لها في العراق، مكّنها من الضغط على دول الخليج العربي وتهديدها من خلال الأراضي العراقية، واتجهت بعد ذلك إلى كل من سوريا ولبنان موسعة رقعة استباحتها، فيما حاولت الحصول على موطئ قدم مريح لها في اليمن، لتستكمل بذلك طوقها التهديدي.
حرب استعادة الشرعية التي خاضتها السعودية وحلفاؤها قطعت الطريق على هذا المشروع، وحجّمت من قدرة ميليشيا الحوثي على بسط سيطرتها الكاملة والراسخة على الأراضي اليمنية. ولا يزال تحالف دعم الشرعية يحاول إصلاح عقود من الأخطاء السياسية التي ارتكبتها السُلط اليمنية المتعاقبة في إضعاف البلاد وإنهاك شعبها.
وسرعان ما انضم إلى الوجود الإيراني المهدد لاستقرار دول الخليج، الضيف التركي الثقيل، بعد أن فتحت له الدوحة أبوابها، ومكنته من نشر جنوده على حافة الخليج العربي، وشجعته للتدخل في الواقع الخليجي والتأثير على الظهير المصري، ومغازلة مياه البحر الأحمر، لكنه غرق وسط توسعه الهستيري في بؤر متفرقة من جغرافيا الفوضى، وتتقلب أنقرة اليوم في جحيم أحلامها المتضخمة.
تركت تجربة العراق المريرة أثرها على المزاج الأميركي، إضافة إلى عدد من العوامل الاقتصادية، وبدأت واشنطن تميل إلى الانسحاب المتدرج من المنطقة؛ فهي قطعاً لم تعد مستعدة للتورط بشكل واسع في القضايا الأمنية والاستراتيجية فيها، وقد ظهر ذلك بوضوح في عدد من المواقف والأحداث خلال العقد الماضي.
كان الربيع العربي بمثابة الانكشاف الأمني الأكثر حدة، بعد أن شكل الانهيار المدوّي لبضعة دول عربية ودخولها في نفق المجهول، فرصة ملحّة لمراجعة واقع الحال، وإعادة تعريف مفهوم الأمن وعوامله في المنطقة والخليج العربي، ومن نتائجه بلورة تكتل أمني إقليمي، ربما تلعب فيه إسرائيل دوراً ما، وكان موشيه باتيل، الذي يرأس منظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية التابعة لوزارة الدفاع قد قال قبل أسبوع، إن إسرائيل قد تكون منفتحة على التعاون المستقبلي بشأن الدفاع الصاروخي مع دول الخليج العربية التي تشاركها مخاوفها بشأن إيران.
رغم أن هذا السيناريو لا يحظى بإجماع كامل. وقد أبدت الرياض، أهم دول الخليج والعالم العربي، تحفظاتها على التقارب “السهل” مع تل أبيب، من واقع تصورها بأن حلحلة القضية الفلسطينية ومنح شعبها حقوقه الشرعية من أهم عوامل استقرار المنطقة وخفض درجات توترها.
لكن مجموعة من المخاطر الراهنة قد تدفع إلى تبني وجهات نظر جريئة كانت سابقاً في عرف المستحيل. الآن ينبغي تطوير مقاربة خليجية عربية متماسكة للمنظور الأمني، لا تتساهل مع تصرفات فردية توفر مناخاً سهلاً للاختراق.
لضمان ذلك ينبغي العمل وفق استراتيجية جماعية، مع مراعاة الرغبات الفردية التي لا تخل بمصالح المجموعة، واحتواء النزعات الفردية لحب الظهور والتأثير، خاصة إن ترافق ذلك مع المكاشفة والمصارحة ومع مشاركة شعبية تؤمن بقيمة التعاون وتنبذ تشظي السياسات وتبين خطر الخروج عن السياق والغوص بوهم طموحات ذاتية.
تعليقات
إرسال تعليق