فرضت جائحة كورونا فرصاً كبيرة للتأمل، على صعيد الأفراد والدول والجماعات، ومنظومة دول الخليج واحدة من الكيانات السياسية التي انعكست عليها آثار الجائحة اقتصادياً وسياسياً وفي خطط استعدادها للمستقبل.
انطلق مسبار الأمل الإماراتي كرسالة إصرار على محورية منطقة الخليج العربي في بناء مستقبل المنطقة، رغم كل التحديات والمعوقات التي يمكن أن تعرقل بعض خطواته، وتبطئ انسياب المشاريع العملاقة التي وضعت لتحافظ على حيوية الأمل وفعالية العمل.
حزمة من الملفات والتحديات التي تلوح في أفق الدول الخليجية، تتطلب إزاءها جهداً مشتركا يحافظ على درجة ملاءتها الاقتصادية وفعاليتها السياسية، مع ضرورة الاعتدال في النظر إلى مقوماتها وإمكانياتها لاختراق الأفق المستقبلي بوعي وأمان وجدوى.
كان العمل قد صمّم في المنظومة الخليجية على أساس دور فاعل ووازن للسياسة الأميركية وحضورها المؤثر في المنطقة، وكانت العلاقة تتأرجح بين تحالف استراتيجي مفيد وانسيابي، أو تباين معقول تفرضه موازنات الوقائع والأحداث، لكنّ نمطاً من التحولات العميقة طرأ على حالة السياسة الأميركية وتأثّر نتيجته دورها في المنطقة، الأمر الذي يتطلب إعادة هندسة هذه العلاقة على ضوء هذه التطورات الجديدة، دون خسائر فادحة على جسم العلاقة المفيدة، أو تبعات الفراغ الكبير والحاد الذي تتركه فجوة الاختلاف.
يتصل هذا، بسياسة الاتجاه شرقاً والانفتاح على علاقة أكثر فعالية مع قوى الشرق الجديدة، وعلى رأسها الصين بأخطبوطيتها الاقتصادية الهائلة وتوسعها التجاري الكبير، وتسعى الرياض قريباً إلى عقد قمة عربية – صينية بهدف “تتويج النجاح” المتزايد في التعاون الذي “يزداد قوة ورسوخاً وتنوعاً” بين الجانبين.
وسيكون لهذا الاستبدال والتحول المهم أثره على ضبط وتنظيم دخول الصين من الباب الكبير على المنطقة، وليس معلوماً إذا كانت علاقة اقتصادية مربحة، تكفي لتجاوز اختلاف وجهات النظر السياسية التي تربط الصين بدول الخليج، وأكثرها إشكالية هو الموقف من سلوك إيران، الذي يتسبب في إزعاج وإيذاء كبير للعواصم الخليجية، فيما تقترب بكين من موقف موسكو تجاه طهران، وقد ترجمت هذا بعقد شراكة موسع مع طهران واتفاق يزيد من نفوذها وتأثيرها في الداخل الإيراني، الأمر الذي يسمم أجواء علاقتها مع الخليج، ومن جهة ربما يكون عامل تقريب مهم ومفتاح حلّ للأبواب المغلقة دونهما.
إذ لا يزال الهاجس من إيران يتزايد كلما توسعت في غرز ميليشياتها في محيط دول الخليج العربي، حتى خلال واحدة من أكثر مراحل الجمهورية الإيرانية تضعضعاً وهشاشة، فإن مخاوف ارتكاب طهران لحماقات غير محسوبة كردّ فعل ضد استهدافها المستمر والغامض، لا تزال تتربص بالمنطقة وتهدد أمنها واستقرارها.
كما أن حالة الضعف التي منيت بها المنطقة العربية، فرضت على ما بقي من العواصم المتعافية، وعلى رأسها الرياض وأبوظبي مباشرة، تحديات وواجبات الملفات العربية، الأمر الذي حتّم عليها الالتحام مع لاعبين إقليميين ودوليين يطمعون في إقصائها والانفراد بتشكيل هوية وواقع المنطقة، لكن بعض دول الخليج رفضت تذويب المناعة العربية وتهديد سيادتها، رغم ما تشكله جارتهم قطر من اختراق يهدد سعيها ودأبها على النجاح في مهمة الضرورة التاريخية.
على الصّعيد المحلي، فإن الدول المهمة في المكون الخليجي تخوض تحديات متنوعة، اقتصادية بالأساس، جرّاء الاضطراب المتكرر لأسواق النفط بوصفها السلعة الرئيس في ضمان تدفق العوائد وتأبيد حالة الرخاء الاجتماعي.
وتأتي خطوات استهداف الفساد ووقف استنزاف المقدرات الوطنية والمدخرات المالية، والتي تبرز أكثر في التجربة السعودية، وبرامج التقشف على مرارتها بالنسبة إلى مجتمع كان يسبح في بحر رعوي مغر، وخطط الإصلاح الاقتصادي الحادة أحياناً، ومراجعة أوضاع العمالة المتضخمة في الخليج، والسلوك الاستهلاكي الذي كان يستنزف الثروات الحيوية، كوجه واحد من عملة التحولات الصلبة في طبيعة وواقع دول الخليج وشعوبها.
وعلى الوجه الآخر، فإن القيادات الشابة التي صعدت لتسلّم المهام وتقلّد الزمام، وعملية استئصال شأفة التطرف وإدماج القيم العصرية، مهمة نبيلة لسلامة وأمن المستقبل المأمول للمنطقة، ودور ضروري لوقف هدر الحقوق الطبيعية للأجيال المقبلة.
في ظل مجتمعات خليجية يغلب عليها الشباب، تجاوزت خانة السرديات التقليدية، وتتطلع إلى نواة بناء جديدة تكون أرضية صلبة ومستوعبة لطموحاتهم وشروط استقرارهم.
كما وتعمل مشاريع المستقبل المركزية، التي أعلنت في بعض الدول الخليجية، بمثابة وقود لاستنهاض المنطقة ومشعل أمل يشعّ، مع الالتفات لحجم التحديات التي يمكن أن تهدد تلك المشاريع العملاقة، وتذروها رياح الممانعة الاجتماعية أو حمم الوقائع السياسية، أو استدراج الخطابات والأفكار الأيديولوجية، لأن الذهاب إلى المستقبل وتبنّي خطط التجديد أصبح خيار ضرورة وجودية، يتجاوز حرب الدعايات الشكلية والمناكفات السياسية.
تعليقات
إرسال تعليق