هناك الكثير مما لا يمكن استيعابه في جولة قصيرة وعابرة للعاصمة الإماراتية، لكنها بلا شك ستترك انطباعا إيجابيا يبدد قتامة ما يعصف بالمنطقة من انهيار وانفلات… ويلتهم ما في النفس من أسى على مستقبل العرب وراهنهم، ويشجع على افتتاح عام جديد أكثر فألا وأملا وأقل تشاؤما.
الخميس 2018/12/27
حظيت هذا الأسبوع بزيارة لطيفة إلى العاصمة الإماراتية أبوظبي. قصدت بالأساس حضور نهائي كأس العالم للأندية، الذي جمع الفريق الإسباني ريال مدريد وممثل العرب نادي العين الإماراتي، بعد أن حقق وصولا مظفرا بتجاوزه ثلاثة أبطال قاريين ومواصلا شق طريقه بثبات إلى النهائي، لكن الرياح جرت بخلاف ما تشتهيه الجماهير العربية في تلك الأمسية الفاخرة من ليالي شتاء أبوظبي.
كل شيء في تلك الأمسية كان جميلا، باستثناء خسارة العين، غير أن الجمهور كان سعيدا وراضيا بقيمة الأداء والوصول الذي أحرزه العين حتى آخر رمق من عمر هذه البطولة الخاطفة.
كان الملعب الذي احتضن المناسبة يقف بشموخ وسط المدينة الناهضة. غادرت الملعب والساعة مبكرة ومشجعة لتمضية بعض الوقت في جوانب وأرجاء المدينة.
والواقع أن شوارعها الفسيحة والحركة المنسابة والدائبة فيها تلتهمك تلقائيا دون أن تبدي مقاومة.
كانت آثار الاحتفال باليوم الوطني الإماراتي، الذي يوافق يوم الثاني من ديسمبر كل عام، لا تزال تملأ الشوارع وتزين هامات البنايات والأبراج الشاهقة التي تحتشد في الشوارع.
عبارات تلونت بألوان علم البلاد تعزز من روح الاتحاد وتنبه المواطنين والمقيمين على حد سواء بفضل هذه الوحدة التي تشكلت عام 1971 ويتمتعون الآن بنتائجها ويستمتعون بثمارها، على هذه الجغرافيا التي تسامت فوق الخلافات وكسرت نحس الحظ العربي في بناء نماذج وحدوية حقيقية.
وحسب ما تشير إليه الكثير من الشاشات الدعائية في أرجاء المدينة، فإن الإمارات أضحت جاهزة لاستقبال نهائيات كأس آسيا خلال الأيام القليلة القادمة، وسيتنافس في مجموعة من ملاعبها 24 منتخبا آسيويا بدأت تتوافد استعدادا لانطلاق صافرة البطولة. وستكون أبوظبي وجاراتها كالعادة أنموذجا في الضيافة العربية الأصيلة والتنظيم الاحترافي الراقي.
تضم دولة الإمارات أكثر من 200 جنسية تنعم بالحياة الكريمة والاحترام والمساواة. ويمكن ملاحظة كم أن صدر هذه المدينة يتسع لاحتفالات رأس السنة التي تجري الآن. كنت أجلس على طرف مقهى يوزع الهدايا للأطفال بهذه المناسبة على خلفية موسيقية مخصوصة، وعندما ارتفع صوت الآذان من الجامع المحاذي لشارع المقهى، توقفت الموسيقى وأفسحت الطريق للآذان أن يتصاعد إلى جوف السماء ويسترعي انتباه من يهمّ بالصلاة.
كانت اللقطة عفوية وعابرة، وتحدث بتلقائية دون أن تثير انتباه أو حساسية أحد، لقد أضحت جزءا من روح المكان وطبيعته.
تعد الإمارات حاضنة لقيم التسامح والاعتدال وتقبل الآخرين، ولتعزيز هذا المفهوم أطلقت الدولة البرنامج الوطني للتسامح. وشرّعت قانون مكافحة التمييز والكراهية. وأسست عدة مراكز لمكافحة التطرف والإرهاب وجوائز دولية بهذا المعنى.
في 15 ديسمبر 2018، أعلن رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد بن سلطان، عام 2019 في دولة الإمارات عاما للتسامح، ويهدف هذا الإعلان إلى إبراز دولة الإمارات كعاصمة عالمية للتسامح، وتأكيد قيمة التسامح باعتبارها امتدادا لنهج مؤسس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وعملا مؤسسيا مستداما يهدف إلى تعميق قيم التسامح والحوار وتقبل الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة.
تعد الإمارات حاضنة لقيم التسامح والاعتدال وتقبل الآخرين، ولتعزيز هذا المفهوم أطلقت الدولة البرنامج الوطني للتسامح. وشرعت قانون مكافحة التمييز والكراهية. وأسست عدة مراكز لمكافحة التطرف والإرهاب، وجوائز دولية بهذا المعنى
سبق ذلك، استحداث منصب وزير دولة للتسامح لأول مرة في دولة الإمارات في فبراير 2016 أثناء إعلان الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، عن التشكيل الوزاري الثاني عشر والتغييرات الجوهرية في الحكومة الاتحادية، والأسباب التي دفعت قيادة الدولة إلى تعيين وزير دولة للتسامح.
تحتفظ الإمارات بقدرتها على إنجاز ما تعد به. دبي ألهمت كل العرب، والعالم أجمع، بأن في مقدور هذه المنطقة عاثرة الحظ أن تقدم بصيصا من نور الأمل الذي يشق قطع الظلام الحالك الجاثم على واقعها. وتقوم الإمارات الآن بمجموعها على مواصلة هذا الجهد الاستثنائي في المشهد العربي.
تلتقط أحلامها من سماء الخيال وتنبته واقعا في تربتها الخصبة القابلة للازدهار والإثمار.
زرت منطقة قصر الحصن أعرق صرح تاريخي في مدينة أبوظبي، حيث شيّد في البدء حول أقدم بناء قائم ليومنا هذا في مدينة أبوظبي، وهو برج مراقبة بني في تسعينات القرن الثامن عشر لمراقبة الطرق التجارية الساحلية وحماية المجتمعات المتنامية على الجزيرة.
تحول القصر إلى متحف وطني في العام 2018، بعد أكثر من 11 سنة من أعمال الترميم، حيث يبرز كرمز وطني يعكس تطور أبوظبي من منطقة لاستقرار قبائل بني ياس، التي اعتمدت على صيد السمك واللؤلؤ في القرن 18، إلى واحدة من أروع المدن العالمية الحديثة، مقدما مجموعة من القطع الأثرية والمواد الأرشيفية، التي يعود تاريخها إلى 6000 سنة قبل الميلاد.
ومنه توجهت إلى متحف اللوفر أبوظبي، الذي تمّ افتتاحه في 8 نوفمبر 2017 على مساحة تصل لـ24 ألف متر مربع تقريبا في جزيرة السعديات.
والهدف الأساسي من المشروع هو أن يكون حلقة وصل بين الفن الشرقي والفن الغربي.
استغرقت المسافة بينهما أقل من نصف ساعة، لكنها رحلة مستغرقة في التأمل والتفكير لحال المدينة الأنموذج التي تغفو بهدوء على طرف الخليج العربي. تستعد لاستقبال العام الجديد محملة بالكثير من الأحلام الكبيرة التي تبتلع وجع هذه المنطقة الموتورة، وتعقد الكثير من العزم والتصميم على المواصلة في هذا الطريق المشدود إلى النهايات البهيجة والمنتظرة.
ليست أبوظبي مسرحا إنسانيا وثقافيا فقط، بل أضحت ذات بعد سياسي مؤثر وفاعل في الإقليم. وغدت بفضل شراكتها مع السعودية، حليفا وثيقا يقود المنطقة ويلعب أهم الأدوار في توجيه بوصلة مستقبلها.
امتلكت أبوظبي الأهلية للتعاون مع الرياض بعد أن رفعت من قدرتها وطاقتها على مكابدة هذه المهمة الشاقة. وذوت قدرة الكثير من العواصم العربية التقليدية على التأثير، وتحملت العاصمتان أعباء المرحلة الملحة.
كما أن لأبوظبي مهمة محورية في دعم تغيير ثقافي يفكك عرى التشدد والانغلاق التي بقيت تسيطر في المنطقة. وتطرح أنموذجا يتبنى قيما عربية وإسلامية أكثر استيعابا وهضما لحاجات المرحلة وشروطها.
آثرت أن أطوي إحدى الأمسيات في جزيرة الريم، وهي منطقة حديثة نسبيا في عمر المدينة ومن المشروعات التطويرية التي تبنت نهجا استثماريا وعقاريا جريئا، وأضحت الآن عامرة بالحركة ومأهولة بالنجاح.
ليل يغفو بهدوء على ضفاف البحيرة الوسطى، وقرص الشمس تكاد تغص به الأرض من شدة وهجه.
يلتقط العابرون على ممشى البحيرة هواتفهم من جيوبهم، يشحذونها للاحتفاظ ببعض الذكريات التي توثق هذه اللحظة من الطمأنينة والتأمل.
هناك الكثير مما لا يمكن استيعابه في هذه الجولة القصيرة والعابرة للعاصمة الإماراتية، لكنها بلا شك ستترك انطباعا إيجابيا يبدد قتامة ما يعصف بالمنطقة من انهيار وانفلات، بصيص يتوهج من خلال تلك المياه الزرقاء والكثبان الصفراء، ويلمع على صفحات الأبراج المتطاولة، يغذّي سير المركبات في شوارعها الفسيحة وحركتها المنتظمة، ويلتهم ما في النفس من أسى على مستقبل العرب وراهنهم، ويشجع على افتتاح عام جديد أكثر فألا وأملا وأقل تشاؤما.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق