لا يوجد تفسير دقيق لما يجري من انخفاض لتسامح الكويت مع سعة الآراء وتعددها، لكنه لا ينفصل عن المحيط الملتهب للكويت في المنطقة والمناخ غير المشجع فيها.
الخميس 2019/01/17
هناك طقس غريب على بلد مثل الكويت، يتكرر كل عام في معرضها الدولي للكتاب، وهو ظاهرة منع الكتب التي تطال أحيانا كتبا عادية لا يرقى إليها لبس أو توجّس.
تطول قائمة الكتب الممنوعة كل عام وتنضم إليها الكتب الأقل حساسية، ويتضاعف اللوم على الرقيب المفترض، الذي يبدو أنه لا يلقي بالا لعتاب المحب الذي يصدر في حق الكويت التي بقيت لعقود بلدا يتسع صدره للفنون والثقافة والصحافة والكتاب.
يتزامن مع كل معرض لكتاب الكويت، نقاش وجدل على شبكات التواصل الاجتماعي يسائلان عمّن أطفأ أنوار الكويت الحضارية التي كانت سباقة في كثير من المجالات في المنطقة، من ذلك أن الكويت ثالث دولة تقيم معرضا للكتاب في العالم العربي بعد مصر وبيروت. ولكنها دأبت في السنوات الماضية على منع كتب معروفة لفلاسفة ومفكرين وأدباء عرب كانت في ما سبق تستنير بهم وتستضيء بمضامينهم.
من ذلك منع كتاب “مئة عام من العزلة” وهو ليس حالة فريدة، إذ أن قرارات المنع صدرت ضد كل من زوربا وفاوست ودون كيخوته، رغم أنه تم توزيعه قبل سنوات في سلسلة الكتاب للجميع. وتمنع الكويت أيضا الكثير من كتب أبنائها في مسار يناقض دورها التاريخي في إشاعة المعرفة في أرجاء المنطقة.
ورغم أن فكرة منع تداول كتاب ما أصبحت أمرا غير مجد ولا مفيد أمام كل هذه النقلات النوعية في منصات العرض ووسائط الاستهلاك التقني، فإن وزارة الإعلام في الكويت سمحت لمجموعة من الإداريين بمنع 4500 كتاب خلال السنوات الخمس الماضية فقط، وهذا رقم مهول في بلد تسامح طويلا مع فكرة الحرية وهضم شروط التعدد في الرأي والتعبير والسياسة.
لا تسري طقوس المنع والحد من الحرية في الكويت على معارض الكتب فقط، بل هناك تدخل حاد من أجهزة بيروقراطية شديدة البأس على منصات الإبداع والإنتاج الإعلامي، هناك تضييق يشي بتغيّر في المزاج العام لدى المسؤول والمجتمع على حد سواء تجاه الحريات العامة في التعبير ومداولة الأفكار وتعدد الآراء.
لا يبدو أنه ملل اجتماعي وبرود عام تجاه فضاء الحرية الذي اعتاده المجتمع وسبق إليه غيره في محيطه العربي، لكنه قريب من انتكاسة لم يؤبه لبداياتها ويقاسي المشتغلون في حقول الإنتاج المتعددة اليوم آثارها ونتائجها.
ثمة أشكال متعددة من تراجع منسوب الحرية والارتياح لها في الكويت صاحبة أول محطة تلفزيونية رسمية في الخليج. رفضت الرقابة عرض فيلم وثائقي روائي للمخرجة اللبنانية الكويتية فرح الهاشم يحمل اسم “ترويقة في بيروت”، بسبب ملاحظات على الملبس ولغة الحوار.
أصبح الكثير من صُنَّاع الدراما التلفزيونية والسينمائية في الكويت يلجأون إلى التصوير في الإمارات أو تركيا هربا من رقابة تعرقل مشاريعهم الفنية، كما أثار منع تصوير وعرض مسلسل “ساق البامبو” لتناوله قضية العنصرية في البلاد ضجة كبيرة عام 2016، وهو عمل مأخوذ عن الرواية الفائزة بجائزة البوكر العربية للكاتب الكويتي سعود السنعوسي والذي مُنعت له رواية أخرى باسم “فئران أمي حصة”، التي تتحدث عن قضية الطائفية في الكويت.
لا يوجد تفسير دقيق لما يجري من انخفاض لتسامح الكويت مع سعة الآراء وتعددها، لكنه لا ينفصل عن المحيط الملتهب للكويت في المنطقة والمناخ غير المشجع فيها، إذ شهدت حالة الحرية في البلاد تذبذبا مستمرا بسبب حساسية الظروف السياسية المحيطة، منذ حرب الخليج الأولى وحتى غزو العراق، مرورا بسقوط بغداد وانتهاء إلى ما بعد الربيع العربي الذي ترك آثارا عميقة على الجميع، لم تنج الكويت من نتائجها الوخيمة السياسية والاقتصادية والفكرية.
ثمة هاجس أمني يتضاعف ويجثم على صدر المنطقة ككل. تكابد كل دول الخليج والعالم العربي للعيش وسط حقل من ألغام المفاجآت والعواصف التي لا تهدأ في هذا الجزء من العالم، تغرز المخاوف مخالبها في كل جزء من هذه البلدان وتشل قدرتها على التنفس بطريقة طبيعية ومريحة. وهو متصل بما تعيشه الكويت من شبه “شلل ديمقراطي”، إذ تتورط في حلقة معقدة من الجدالات والاستجوابات التي تنتهي أحيانا بحل أكبر مؤسسة ديمقراطية في البلد، ثم تعود من الصفر في بناء تجربة ديمقراطية جديدة لا تنتهي نهاية سعيدة في ظل توتر معطل مع الحكومة التنفيذية.
ثمة حسابات متداخلة تخصم من حظوظ الحرية وتنعكس سلبا على المزاج العام للبلاد، ويقحم أداء الأجهزة الحكومية في ضوضاء الآليات التي يفترض بها أن تكسو البلاد بكثير من الهدوء والسلاسة، لكنها تفعل العكس تماما، وهو أمر غريب بكل الحالين، إن استمر أو توقف.
كما أن هناك نقاشا يعلو ويخفت عن نفس جديد على بعض منابر الجمعة والخطب الدينية في البلاد، يضخ أطروحة حركية انحسرت من بعض دول الخليج العربي، ويبدو أن الكويت ستتحمل أعباء هذا الانحسار ويقع على كاهلها، وسيفتح هذا الخطاب جيوب الهروب والتنفيس عن الضغوط عبر تراب الكويت وبين أحشائها.
يفاقم هذا الخطاب من تقليص فرص الإبداع الحر، ويسمم مناخ التعبير، ويضيّق الخناق على التيارات المنافسة لالتقاط انتباه المجتمع، وتعبئته على إيقاع المرحلة الجديدة.
ولا ينجو من تهمة منابذة الحرية التي تنحسر في الكويت، سوء الاستخدام والإسفاف الذي شهدته بعض المنتجات الفنية خاصة، وتواضع المحتوى وغياب المسؤولية، ما زهّد المجتمع في دعم التوسع في الحريات وصونها، ومال به أحيانا إلى التواطؤ مع الرقيب وتشجيع جهوده في التضييق والمزاحمة.
في رسالة اعتراض متحضرة على قرار منع العديد من الكتب، شيّد الفنان التشكيلي محمد شرف عملا فنيا لمقبرة رمزية شواهد قبورها عناوين الكتب الممنوعة في إحدى ساحات معرض الكويت الدولي إبان إقامته. كان العمل بالغ الرمزية والدلالة ولقي إشادة وتداولا على مواقع التواصل الاجتماعي، وبطبيعة الحال قامت الجهات المختصة بإزالته على الفور.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق