لا يمكن إنكار أن تأثيرا كبيرا تركته المنصات التقنية على حالة الإعلام عموما، وأنها فرضت مفاهيمها على عملية الاتصال بالمستهلك، وغيرت شروط صناعة المحتوى على أساس إيقاعها السريع.
الأربعاء 2019/01/16
لا تزال خارطة المشهد الإعلامي موعودة بالكثير من التحولات المستمرة، يتغير المشهد ويتبدل بدخول فاعلين وخروج آخرين، النزاع بين التقليدية والجدّة لم يحسم لصالح طرف منهما، رغم طلائع النصر التي تومض بانتصار الإعلام الجديد -إذا سلمنا بدقة التصنيف والتسميات-، لكن ثمة ما يخصم من رصيد الإعلام الجديد مضمونا وأدوات.
والثابت في الشأن الإعلامي أن التغيرات جارية بلا توقف، بل تحدث بسرعة هائلة يصعب على المتمهلين استيعابها ومواكبتها، وينجو بعناء المبادرين إلى التعاطي معها وتبني لغتها وشروطها المستحدثة.
ثمة أخبار طرأت في الجانب التقني، الذي يتزعم مهمة التأثير على صنعة الإعلام اليوم، إذ يتداخل الجانب التقني في الإعلام ويؤثر فيه، وهو يضبط إيقاع علاقته مع الجمهور ويصنع مناخ الاتصال به بناء على مكتشفاته ومعطياته، بل يفرض مفرداته هو على تقاليد الإعلام التي لم يسعفها رسوخها ولا سبقها في الميدان أمام كشوفات التقنية الحديثة والجاذبة.
التقنية مجال تسارعي، خلقت فضاء استهلاكيا جنونيا، لا يكاد جمهوره يستغرق أداة منه حتى ينتقل إلى غيرها، مذهولا بالممكنات المشبعة التي تتيحها أداة منافسة تجدّ في السوق التقنية الضاجّة بلا هدوء، والإعلام أصبح رهين هذه الوسائل في سعيه الوصول إلى هذا الجمهور، وربما كان هذا على حساب المحتوى إلى حد كبير، رغم أن المحتوى هو جوهر الإعلام ومادته الرئيسية.
فقدت سناب شات 80 بالمئة من قيمتها، وهو التطبيق الذي تحج إليه الكثير من المؤسسات الإعلامية، وتسعى لبناء مواد ومحتوى يناسب شروط هذه الأداة ويرغب جمهورها.
كما أغلق عملاق المؤسسات التقنية غوغل 7 منتجات في هذا العام فقط، رغم تدشينه أخرى في مقابلها، لكنه قلّص من نوافذه مثل برامج أخرى شهيرة كـ“باث” الذي ودع جمهوره وأقفل.
هناك المئات من الشركات تقاسي التعذيب والألم، والمشهد التقني وتبعا له الإعلامي يتبدل ويتحول، ولا تنذر ظروفه باستقرار نهائي يمكّن من ضبط ساعته ولا الخروج بإطار قاطع يمكن التعاطي معه.
هناك تفسير اقتصادي لهذه الانتكاسات التي تشهدها شركات التقنية الكبيرة في العالم، والتي تقود قاطرة هذا المضمار الضخم من تنافس المنتجات والمنصات التي يطال تأثيرها كل مجالات النشاط الإنساني، من بينها الإعلام، بل على رأسها.
يقول الخبير الاقتصادي لاحم الناصر ذات حديث جمعني به؛ إن سبب الخسائر التي تلحق بشركات التقنية بين وقت وآخر، هو ارتفاع التكاليف مع عدم وجود عوائد في المقابل، بالإضافة إلى ضعف الطواقم الإدارية الواعية بمهامها، حيث في الغالب يديرها المطورون أصحاب الفكرة والكثير منهم لا يملك الخبرة الإدارية الكافية للتعامل مع السوق بناء على لغته الخاصة به.
وفي تطبيقات مثل باث وسناب، كانت الفكرة أخاذة في البداية، وكذلك تويتر، بقاؤها يكلف الكثير وكلها شركات قامت على منتج واحد، وعوائدها لا تغطي التكاليف، عكس غوغل وفيسبوك الذي قد ينجو غالبا.
ماذا عما تركته هذه التقنيات، وهي تعاني الآن، على طبيعة الإعلام؟ بعد أن انصرف الكثير من منتجيه والمشتغلين في حقوله إلى هذه المنصات، وقد تعرض المحتوى لكثير من التحديات التي أضرّت بقوته وجودته.
خسائر التقنيين ليست إعلان فوز الإعلام التقليدي ولا حتى صعقة كهربائية لإنعاشه، لكنها في الواقع تزيد من مرارة تحدياته، وخشية أن يبقى متروكا بانتظار أن ينتشله كشف جديد، يعيد اتصاله بالجمهور الذي ظن الطرفان لوهلة ماضية أنه انصراف نهائي لا رجعة بعده.
رغم بهاء المنصات التقنية التي انفردت بالجمهور وحولته إلى مستهلك مدمن لضخها المهول غير المنضبط، فقد تعرض المحتوى لكثير من الهزائم، وقد كانت تحتكره المؤسسات الإعلامية العتيقة وتضبط إيقاعه على أساس تقاليدها، التي قد تتباين كثيرا، ولكنها تحافظ على درجة معقولة من المصداقية والمسؤولية التي تكاد تكون الآن مسحوقة.
ورغم ارتفاع قيمة الإخباري الفرد في المنصات الجديدة، وقوة تأثيره وجماهيريته، لم يحل بديلا ولا موثوقا عند اشتباك الخطوط والتباس المسافات، وبقيت المؤسسات الإعلامية العتيقة مرجعا مهما لتصديق الخبر ودمغه بخاتمها التقليدي، أقله من الناحية الانطباعية.
شكلت أدوات الإعلام الجديد أكبر تحد للمصداقية في عمر الإعلام، عمليات التضليل والتلاعب تزايدت بشكل مهول، وسلامة المحتوى من جهود التأثير والتسييس ليست مضمونة دائما، كما أن فرص ضبط سيولة وتدفق الأخبار بلا ضابط اتسعت على الواقع.
لا يمكن إنكار أن تأثيرا كبيرا تركته المنصات التقنية على حالة الإعلام عموما، وأنها فرضت مفاهيمها على عملية الاتصال بالمستهلك، وغيرت شروط صناعة المحتوى على أساس إيقاعها السريع وبناء على متاحاتها الفريدة والعصرية.
وأن مستهلك زمن الإعلام الجديد، مختلف تماما، وتتطلب تلبية حاجاته الكثير من التغيير والجهد، لكن شيئا من عراقة الإعلام القديم أدوات ومضمونا، لا تزال صلبة، واستدعاؤها أكثر إلحاحا الآن في وجه كل المؤثرات التي تشوه الواقع من حيث أريد لها أن تصلحه، وتضعف الجمهور وتستغفله من حيث أريد لها أن تمكّنه وتتوجه.
وهذا يعني أن نواصل النقاش في صياغة أفضل استجابة ممكنة لصناعة الإعلام الحقيقي، مستوعبين كل المتغيرات الجديدة، دون التفريط في الشروط العريقة لمفهوم الإعلام الحر، الصادق، الذي يعنى بالمعلومة الجادة، والمحتوى المشع فعالية وإيجابية وصدقا.
إذ لا يزال الإعلامي مسؤولا في كلمته، معنيا بالإنسان، مشغولا بهمومه، حاملا لآماله، رافعا عن كاهله مشاق الطريق، قاصدا حيازة الحقيقة وجاهرا بالحق.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق