معركة الوعي تتطلب نفسا طويلا، ومرونة في تقبل الهزائم الموضعية، لكنها معركة ضرورة، في سبيل المجتمع المنشود الذي يحجز مقعده في مسرح الكبار، فيما العرض أوشك على البدء.
الاثنين 2018/12/17
فيما كان سباق “الفورميلا أي” يجري بتألق وتنظيم رفيعين في منطقة الدرعية التاريخية، كانت المملكة العربية السعودية، حكومة ومجتمعا، تفصح عن المزيد من ملامحها الحديثة، أكثر تعصرنا وحيوية، واتصالاً بالعالم الجديد، واستعداداً جاداً وحقيقياً لكل المناسبات التي تجمع البشرية على صعيد الفن والذوق والثقافة.
منطقة الدرعية التي احتضنت هذه التظاهرة، تحمل رمزية سياسية وتاريخية عميقة في الذهنية السعودية، ومنها انطلق مؤسس كيان الدولة الجديدة وإليها عاد، وهي رغم كل مظاهر التحضر والعمران حولها، احتفظت بقسماتها التراثية واحتضنت فعالية تعبر عن ذروة الحداثة، وكأنها تؤشر إلى قدرة البلد على مزج الطرفين بكل هدوء وسلاسة.
الدرعية التي أيقظتها حركية الحكومة السعودية الجديدة بعد أن تعثر المشروع لأكثر من عشرين عاماً، كانت جاهزة لبعث رسائل واثقة عن المرحلة الجديدة.
كانت صور الفرح والتفاعل المجتمعي مع الفعالية تصل بتوارد على شبكات التواصل والإعلام الجديد، ليس هناك ما يدعو للاستغراب، مثل كل المجتمعات التي تعيش ساعتها الراهنة، لكن أين كان يختفي هذا النمط من الحياة، إذ لا تبدو الصورة الجائرة عن الحياة في السعودية نابتة لدى الآخرين خارج حدود البلاد، بل حتى في أدق صور السعوديين عن أنفسهم.
لا مجهود كبير تحتاجه للتفسير والفهم، ثمة أجندات حياتية كانت تُفرض خارج طاقة مجتمع على الاحتمال، يمكن ملاحظة هذه القسوة في بقايا ردود فعل الناقمين على إرادة الحياة لدى الناس، والساخطين من فرص الترفيه والانتعاش الجديدة، فقط لأنها لا تليق بأهل هذه التربة الجغرافية.
تضيق أحلامهم عن فهم أنّ على هذه البقعة مجتمعاً نابضاً بالحياة، ومتطلباً لكل الحاجات البشرية المعتادة، التي كان يقضي وطره منها خلف حدود وطنه، واحتاج إلى إنصاف الإرادة السياسية لتستقطب إليه هذه الفرص المشبعة بالفن والثقافة والترفيه والتعبير.
ومع ذلك، يبدو وكأن مجتمعاً آخر كان ينمو في الظل، أو تحت جثمان الصحوة الذي كان يظهر وكأنه حي ومنتعش، لكنه في الواقع يلفظ أنفاسه الأخيرة. حجم الاستجابة التي أبداها المجتمع السعودي تلقاء التحولات الأخيرة كان عفوياً وسلساً، سيما تلك النشاطات الترويحية والفنية.
كل الهواجس التي كانت تخامر أكثر الناس حصافة لم تصدق، لم تحدث منها ذرة واحدة.
كما أن عدداً من الديناميكيات تركت أثراً في المجتمع، ومولته بأدواتها المساعدة على خلق مجتمع التوازن والاعتدال، من ذلك برامج الابتعاث التي اعتمدتها الحكومة في السعودية لسنوات طويلة، للمساعدة في بناء الكفاءات وصقل الطاقات البشرية لمعاونة الجهد والأداء الحكومي في تحقيق التنمية.
بالإضافة إلى آثاره الاقتصادية والاجتماعية الرئيسية، كان لبرامج الابتعاث آثار اجتماعية وثقافية كبيرة، سيما في سنوات التوسع التي نقلت جيلا كاملا من بناة المستقبل وصانعيه، إلى الخارج وفي أكثر عواصمه انفتاحا وتحضرا وهضما لأدوات الثقافة الحرة.
كما أن تقنيات التواصل التي أقبل عليها السعوديون بشراهة، وسّعت مدارك المجتمع، وهيأت له فضاءات من التداول اليومي الذي يعطي حصصاً متساوية من التأثير بين المدن المركزية والأطراف في المملكة، الأمر الذي يجعل ثغرة ما في جدار النسق الاجتماعي المصمم يتسع تأثيرها ويبلغ ما لا يمكن تحصيله في أوقات سابقة.
استطاع المجتمع السعودي منذ عصر المنتديات إلى شبكات التواصل، وخلالهما ما كانت تضخّه الفضائيات، أن يراجع الكثير من أنماطه الفكرية والمجتمعية، وأن يحقق مستوى من الاحتكاك بالآخرين وتجاربهم المتقدمة، وتعددت النوافذ التي تمده بالأفكار بعد أن كان لعقود يلقي سمعه لخطاب أحادي يصمم أطر الحياة على هواه ومبتغاه.
احتفظت النخبة المجتمعية في السعودية بحيوية الاتصال مع العالم، مثل كل الطبقات المقتدرة في المجتمعات، مكنّتها الوفرة المادية التي تحوز عليها من الاحتكاك بنمط حياتي راقٍ ومتحضر.
وكان هذا النموذج المعيشي مثالاً يصبو إليه الجميع، وينشده في سعيه لحيازة الوظائف المرموقة وتحصيل مداخيل عالية. كانت تتقلص بعض تلك الأحلام في مراحل من الانحسار الاقتصادي التي تثب بين كل فترة وأخرى، لكن النموذج الاستهلاكي كان يسيطر على أحلام وواقع البسطاء والأغنياء على حد سواء.
نشأ جيل جديد لم يستسلم لروايات التنشئة النمطية. الإحصاءات التي تثبت مجتمعاً شاباً في مجمله تؤشر بوضوح إلى ذلك، تحقق لهذا الجيل النمو بعيداً عن الأيديولجيات الأبوية، كما أن الوفرة المالية ساعدت في زيادة أعداد السياح السعوديين واستهلاك المنتجات العصرية ومباشرتها في الخارج، وذلك كله ينبت أفكاراً وذهنيات مختلفة ومعصومة من عسف الإكراهات المجتمعية.
أشياء كثيرة كانت تثقب سقف الصحوة أو الغمامة التي كانت تحوم بجلال في أفق المجتمع، أخذت تقلص من نفوذها وتحتال عليها، فيما كانت الأدوات الرثة لخطاب الصحوة هي أكثر الأمور تشجيعا على مغالبتها والخروج من مأزقها إلى حيث ينبغي.
وبكل الأحوال، ليست هذه آخر معارك الوعي، هذه منتجات شكلية تنساب بهدوء إلى نسيج مهلهل لا يخلو من قدرة على المقاومة، نذير غضبة اليائس قد يلوح في ارتدادات عكسية لاستعادة المهابة المكسورة.
هناك محاولة مدسوسة من الخارج لاجترار الخطابات القديمة، سعياً لتوظيفها في معركة الداخل، تغذيها أدوات المسلسل القديم لاختراق العاصمة المجاورة، عندما كانت تغرز العصي في دواليب التنمية الهادئة والمجتمع المستقر.
ورغم أن الحرب الآن مكشوفة ومعلنة، لكنها تحاول إنعاش الأدوات المضمرة في وجدان المجتمع، تلك التي دربتها وبذلت لها وسعها من المال والرعاية.
معركة الوعي تتطلب نفساً طويلاً، ومرونة في تقبل الهزائم الموضعية، لكنها معركة ضرورة، في سبيل المجتمع المنشود الذي يحجز مقعده في مسرح الكبار، فيما العرض أوشك على البدء.
تعليقات
إرسال تعليق