أشعر بارتياح وارتياب معا. مرتاح لما هو عليه حال بلادي من استقرار وارتياب لكون هذه الحمم التي تغلي من حولنا يصعب أن ينجو منها أحد.
الخميس 2019/01/03
في السفر، تواجه عشرات الوجوه بتعابير مختلفة، هذا يوسع أفقك، يثري فكرتك عن تلك المعارك والمكاسب التي كنت مغمورا بها في وطنك الصغير. ستصادف وجوها غاصة بالحزن، لأنها تنتزع من بلدانها رغما عن مباهجها اليسيرة، أو ملامح مسكونة بالقلق وهواجس ما ينتظرها، وأخرى ضاجّة بالفرح والسلام.
شاب يمني يخوض تجربة الاغتراب لأول مرة. هذه رحلته الأولى إلى المدينة الحدودية حيث مقرّ عمله الجديد. آخر ما ذاقه من طعم بلده هو الحرب الطاحنة التي تدوّي في بلدته الصغيرة على أطراف صنعاء. يتمنى لو استطاع العمل في الإعلام. يعتقد أنه يحب المجال لكنه لم يدرسه. كنت أسلّيه بعبارات يعلم كلانا أنها عاجزة عن الوفاء بنتائجها السارّة.
كان العراقي الطاعن في الخيبة، يقلب صندوق الصور في هاتفه، لقطات أحفاده خاصة التي كان يستعين بها على رسم ابتسامة شحيحة على وجهه المتجعد، إنها قوت ليالي الغربة ومشاوير السفر. فكرة أن عائلته موزعة بين السويد وتونس وبريطانيا لا تعطي حقيقة أنها عائلة محظوظة بهذا التوزيع الجغرافي، بل عائلة منكوبة، شردت اختيارا بين هذه العواصم المتنائية.
لقد بدأ شتات العائلة يلتئم رويدا رويدا في دبي، العروس النائمة بهدوء على شواطئ الخليج العربي. يقول إن الإقامة في دبي هي أفضل وصفة لعراقي يستبد به الحنين ويطارده الواقع. يستطيع أن “يباوع” بغداد من برج خليفة على الأقل كما يقول مازحا.
أسرة سورية عالقة بين أمنياتها العريضة وواقعها المرّ. هي في ما تبدو دافئة جدا تشبه ملامح أطفالها النضرة. لكن في أوقات الصمت تخيّم على ملامح عائلها هواجس تتقافز بضراوة من عينيه. في لحظة عابرة ذكّره موظف الجوازات أنه لا يعيش ظروفا طبيعية، وأن تلك الأوراق لا تكفي لإنجاز مشواره.
ومصري مرح، يحتفظ بقدرته الفذّة على صنع الارتياح واستراق انتباهك، رغم سنوات الهجرة الطويلة لم تخترم عاديات الأيام روحه. ولم تطفئ هرولته لطلب الرزق جوهر قلبه. لا يبدو راضيا تماما لكنه مستطيع على مواجهة الحياة بأقل قدر من القلق. أكثر ما يزعجه أنه لا مفرّ من قرار الهجرة.
كان يمكن أن أجد مرافقنا السوداني محتفظا بهدوئه وسمته المتمهل، لولا أن سخونة الأحداث في بلده لا تشجع على ذلك. وكأن البلد وأهلها كانوا يبسطون غطاء من الصمت على ما يتجلجل في أعماق البلد النيلي المتعب، وأن الانتفاضة الأخيرة رفعت الغطاء وفتحت صناديق الكلام المؤجل. الجميع يترقب ولا يستطيع أن يجزم بشأن بلد تعود أن يثور كلما طال أمد السبات العميق.
تستغرقني الأحاديث الجانبية التي يستهلكها بعض أبناء الجنسية الواحدة. تدهشني قدرتهم على ملاحقة بعض التفاصيل رغم كمية ما نسمعه عن انهيار البلد الذي ينتمون إليه. يتجادل ثلة ما عن سعر البنزين في بلدهم. ما أعرفه على الأقل حسب متابعتي، أن البلد مشلول تماما، يبدو أن هذه التفاصيل الصغيرة التي يهتمون لها، هي نوافذ الحياة، وبعض ما يعين على ابتلاع الوضع العام لبلد منهار أو موشك على ذلك.
دعاني مسافر آسيوي إلى وجبته للعشاء بعد محادثة عابرة. كانت ستكون دعوة عابرة من باب المجاملة لولا إصراره. كنت دائما ولا أزال أنظر إليهم ككائنات غير مستعدة لبناء العلاقات، تقصر تعاملها على العمل والمنفعة. ثقب هذا الآسيوي ثغرة في جدار تصوراتي الجائرة، لكن تركيزه في الحديث عن طبيعة العمل في الخليج الذي سيسافر إليه بعد قليل، كان يقفز بتصوري القديم، وكأن دعوة العشاء رشوة بسيطة لنيل ضمادات نفسية عن مستقبله الموعود هناك.
كنت أتحسس أوراقي كخليجي كل وهلة. أشعر بارتياح وارتياب معا. مرتاح لما هو عليه حال بلادي من رغد واستقرار والحمد لله، وارتياب لكون هذه الحمم التي تغلي من حولنا يصعب أن ينجو منها أحد، وأن كثيرا مما يحاك، يريد لكل هذه المنطقة أن يتخطفها هوس الانهيار، وأن سيلا عرمرما من الفوضى يجول في الأرجاء ولا يكسره سوى تدبر أحوالنا باستمرار.
يصحّ لهذه الرحلة التي استغرقت 14 ساعة أن تكون سفينة نوحية تصطفي من كل مكان قصة. وكأنني بسطت خارطة مشهدية، حيثما وضعت إبهامي أومضت بعض الحقائق وانكشفت للعيان. سيولة الأحداث التي تجري وتقع لا تتيح لأي حكم أو فكرة أن تستقر، إذ تتبدل الظروف والأوضاع بطريقة جنونية من حولنا، لكنها تتفق على أن هذا الكون متعب ومستنزف من الالتحامات المكلفة. وأن جرعات كبيرة من الإصلاح والسلام والعلاج تحتاجها الكثير من مناطق العالم، لسوء الحظ فإن عالمنا العربي سيطلب أكبر كمية من هذا الإصلاح المنتظر، وربما المستحيل.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق