للوهلة الأولى يبدو مثيرًا للانتباه مسألة أن تضم خلية داعشية مراهقين يتبنون عملًا إجراميًا مكتمل الشروط، عملًا إجراميًا يفوق قدرتهم على الفهم ويتجاوز أعمارهم بمسافات ضوئية، تزيد المسألة ضبابية وإدهاشًا حدّ العجز عن الاستيعاب عندما يفجر شاب مراهق نفسه في مسجد للطائفة الشيعية، مراهق للتو تخرج من الثانوية كان كغيره من أهل قبيلته وأترابه متطلعًا إلى الترتيبات الروتينية لحياة عربية تقليدية ككل الشباب بلا استثناء.
لا يبدو الأمر مقنعًا ولا كافيًا عندما نعتقد أنه مجرد إغواء يشتغل على عامل السن، وتغرير يستند على سذاجة الشباب وأحلامهم الصغيرة، الأمر أبعد من ذلك، والقصة تنطوي على أبعاد عميقة، تفسر الجاذبية التي تدفع شبابًا مرفهًا من دول الحلم الأوروبية يتبنى فكر التشدد ويسافر إليه ويستعد للموت من أجله، القصة جادة إلى الحد الذي يجعل الموت من أجلها سهلًا ومستساغًا وربما فضيلة يتنافس عليها المراهقون وكأنهم يراهنون على نيل فؤاد فتاة مرهفة، ويوم يذهب الشاب مقبلًا على الموت ومنصرفًا عن الحياة بمحض إرادته فإن وراء الأكمة ما وراءها من الأسرار والأخبار.
لا أملك جزمًا باكتشاف ذلك، ولا أدّعي أنني سأحصل على النتيجة المنشودة التي يقتلها الخبراء والباحثون بالتحليل والتفسير دون أن ينالوا منها طرفًا أو يتناولوا خيطًا، ولكنني سأحاول تحري المسألة من جانب مضمر لشاب مراهق في بلد عربي يشبه غيره من بلدان المنطقة في أعراضه وأمراضه.
تخيل لو ظفرت بمحادثة عابرة مع مراهق داعشي متحمس لفكرة الانضمام ومستعد للموت من أجل ذلك، تجاوز مرحلة استبطان التعاطف والمناصرة إلى استظهار الولاء والمعاصرة، سيحدثك بالتأكيد عن كل المبررات الدينية والتفسيرات السياسية التي يشعر وكأنها تؤيد فكرته القاطعة، كل ذلك يتجاوز قدرته على الاستيعاب والفهم ولكنه ممتلئ بذلك حد الثمالة ومشبع بفكرته حد الغرق، بغض النظر عن تلك الأرضية التي تغذي كل فرص العنف السياسي والتي يتقيأها العالم في تحليلاته وتفصيلاته صباح مساء، نحن نبحث عن مسألة محددة ومقصودة لذاتها، لماذا يندفع شاب مراهق طريّ مستعدًا للتنازل عن الحياة والقبول بالموت من أجل فكرة تتجاوز قدرته على الفهم؟
بالطبع هذا لا يتعلق باستخفاف الشعوب واحتقار قدرتها على الوعي والإدراك، ولكنه تشخيص حقيقي لواقع مراهق طفولي يلقي لعبته البلاستيكية ويحمل قطعته المعدنية ويشهرها في وجه الآخرين، معلنًا نهاية حياته هو وبملء إرادته، قبل الآخر الذي ألغى حقه في الحياة بضغطة زناد خاطفة أو شدة حبل متدلٍ، ويصدف أحيانًا أن يكون الآخر مجرد جاره القديم أو صديق لعبته في الحي ولصيق مقعده في المدرسة.
يبدو الجيل الجديد من الإرهاب مخلوقًا من روح العصر، يستطيع مجموعة مراهقين يملكون وقتًا كافيًا للعبة خطرة، تكوين خلية مستعجلة وتبني واحد من فروض الولاء وعروض القطع بالانتماء، مثل إطلاق نار على رجل أمن عادي، أو تفجير مسجد لطائفة مزعجة -في تصورهم- أو كافرة -في اعتقادهم-، لا وقت كافي للنضج، لا مساحة متاحة للنقاش والتداول، العب اللعبة ثم ادفع ثمنها.
هناك فراغ حاد، ناتج من طريقة حياة مقلوبة وثقافة مخروبة، يشعر الشاب بالضياع واليأس، يبحث عن بطولة متوهمة، يجد في مجاميع الجهاد الضال فرصته العابثة عن موطئ قدم، تستقر به نفسه ويجد فيها ذاته، غاصًا بكل مبرراته الدينية التي استنزفها من ليّ النصوص واعتساف الأدلة، محاطًا بواقع سياسي مؤسف صنعته ظروف متشابكة.
يشعر في ظل هذه الفقاعات السلطوية بقدرته على التأثير، يجد وضمن قطاعه المسلح دورًا فاعلًا، يشعر بالاعتداد أكثر، تذل له رقاب المستضعفين وتطوى له الأرض الخراب من فساد المستبدين ورعونة الظروف السياسية، يخيّل إليه ومن واقع استضعاف شعوب أهل عقيدته وبوار بلاد أهل قوميته وكأن العالم يستهدفه في دينه وأرضه وعرضه ثم يستفز كل قدرته على التوحش والعنف المطبوع في أصل خلقته أو طارئ طباعه.
بينما هو متترس بعقيدته الطهورية، ومزهو بمجرد الصحراء والقفار التي بسطت له، والبشر سيئي الحظ ممن وقع في محيط سيطرته وقبل ذلك في ذمة حكوماتهم الفاشلة، تبدو القوى الدولية -التي ينابذها ويتهمها بالمؤامرة والاستهداف- شامخة بفعل فارق القوة ومسافة البطش والاستطاعة المتنائية، يجن جنونه ويخلق أهدافه السهلة وقائمة أعدائه الملاصقين له، وتنشأ عقدة الآخر ولو كان مجرد ابن عقيدته المنصرف عنه، وتعيش الفوضى عمرًا أطول.
إنه اليأس العاجز الذي قد يدفع شابًا إلى الانتحار بسهولة متناهية، يشبه اليأس الذي يدفع آخر إلى الانتحار بطريقة نبيلة وبطولية كما يعتقد، الاثنان يتشابهان في البحث عن راحة تسكن عالمًا آخر، ما بعد الموت أو الجنة أو النار، المهم أن تنتهي الحياة لأنها لا تستحق أن تعيشها، وهناك فرصة أخرى وفي مكان آخر للعيش الجيد.
كل هذا يحدث ضمن حالة من التداخل الزماني، بين منطق الدولة وحلم الخلافة السادر في تاريخيته والمكبل إلى ماضيه، عراك نفسي يخصم من هدوء المراهق الداخلي ويضرم الشك والقلق المؤدي إلى الاندفاع والارتباك في اتخاذ القرار أو الاستسلام لمن يعتقد أن لديه الحل والخلاص، إنه الخلاص بطريقة أو بأخرى!
يعطينا الموقوف “خالد المولد” صورة نموذجية للنهايات المفتوحة لمثل هذه الحالات، يذهب أيام مراهقته إلى ما يعتقد أنه جهاد شرعي وهو ذروة سنام الإسلام بمعنى أنه تحققت لديه شروط موضوعية وروحية بدرجات مرتفعة لخوض هذه العبادة والتكليف الصعب، يعود للديار ويستأنف إدمانه على الحشيش الذي جربه قبل الجهاد، ويبقى مدمنًا لعشر سنوات أخرى وكأنه عاد من نزهة، ومجددًا يخوض غمار حالة جهادية حادة بمبررات جديدة من صنع عصره الراهن، إنه الفراغ واليأس بكل ما يعنيانه من تفسير وتعبير.
“الفراغ” الذي يفتك بالمراهق، يجعله مستعدًا لكل شيء، ضعيفًا وهشًا وقابلًا للاستغلال، واليأس من ملل الأدوار التقليدية، من الشعور القاسي من كونك شخصًا مجهولًا، الفراغ الذي تصنعه نوعية التعليم التي تجعلك مستسلمًا لكل ما هو خارج إطارك، مصنوعًا رتيبًا في آلة لا تتثاءب.
كما أنه نتيجة “التداخل الزمني” الذي يشعرك بالألم من حال الأمة، ويحملك مسؤولية الأوضاع المزرية دون قياس للإمكانات، يلحّ عليك بضرورة التغيير، وعندما تصطدم بواقعك يحولك إلى شخص ناقم.
لدى بعض شبابنا غالبًا لا توجد ظروف اقتصادية حادة تشعر معها بالغبن السياسي، كل ما في الأمر مجرد ترف يصادف شابًا فارغًا إلى أبعد حد، يسمع كثيرًا عن فضيلة الموت في شيء ما، يتلقى تعليمًا دينيًا لا يراعي روح العصر ويخضع لثقافة لا تتجاوب مع التغيرات؛ فيحدث الارتباك.
هذا بالتحديد ما تلعب عليه الحركات المقاتلة، تجد مراهقًا لديه هذه الأرضية المناسبة للاقتناص، بوعاء مستعد لتشرب كل الأفكار، ونفس متشوفة لعمل ما يجعلهم بطلًا من ورق، أو بطلًا محترقًا.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق