أراك مقززاً وأنت تتقمص أثواباً لا تليق بك، ولا تنضبط على قياسك أو تتفق مع مقاسك، ترتدي أقنعة متكاثرة، فإذا أصبح يوم تناولته وإن أمسى خلعته، تقف في مقام لا يناسبك وتحاول أن تكون ذاتاً لا تنتمي إليك.
وأنت في سعيك الزائف هذا، يحترق العمر بين يديك، ويعتريك إرهاق حاد يكاد يقضي عليك، ويفتك بك القلق وأنت تبحث عن رداء يشتملك وراحة تحيط بك، ولكن هيهات وأنت المفتون بالتقليد والمبتلى بالتبعية.
ما بالك! كل يوم وأنت في شأن، تجرب كل ما يخطر ببالك، وتنشط لاقتفاء أثر كل ملفت، وتهرول عبثاً وراء شخوص متناقضة وأحوال متراكضة.
وربما ينبو عنك اللوم إذا كان هذا حالك في مراهقتك وصباك، أما وقد فعلت هذا وتفعله وأنت تدرج بالقرب من سن الرشد وعلى حافة الرجولة، فإنك حقيق بالتقريع وجدير بالمحاسبة.
بإمكانك أن تتأنق في ملابسك، تضع سلسالاً يتدلى من عنقك، أن تتنكر للهجتك الريفية، أن تغير محيط أصدقائك كأنك تخلع ملابسك من فوق جسمك أو تغير جلدك، أن تنغمس في مدينتك الجديدة وتزدري قريتك البائسة، أن تعيش غاية ما تستطيع من صور التحضر المديني البارد، أن تلاحق الموضات وتستعجل ركوبها وكأنك تدفن بقاياك المتطينة من غبار قريتك الجنوبية المتوحلة.
بإمكانك أن تنحت لقبك الظريف الغاص بحروف لاتينية براقة وتواري اسمك التقليدي البشع، أن تنسحب من ارتباطاتك وواجباتك الاجتماعية المتخلفة وتتمرد على طريقتك الأولى، أن تلتقط لك صوراً مصبوغة بالتعديلات والتأثيرات حتى تظهر أكثر فخامة وأنت تقبض على كوب قهوة إيطالية لا تستاغ، وتنكر أي صلة بخبز التنور أو قهوة جدتك المرة.
بإمكانك أن تذوب كمداً على أغاني جاستن والشاب زين التي يغلب ضجيجها على عباراتها، وتلوم أهل بلدتك على طربهم المزعج وطريقتهم الشعبية في الاحتفال.
بإمكانك وبسهولة تامة أن تعيش حلمك الواهم بالتحضر الذي لا يتعدى الشكليات والحياة المتعصرنة، ويبقى سلوكك رجعياً وطريقة تفكيرك تجسد منتهى التخلف وأخلاقك مزيج من رجعية الريف وبشاعة التمدن.
التحضّر نوع آخر من التفكير والأخلاق وطرائق المعيشة النبيلة، فلسفة متكاملة للتغيير تتجاوز المظاهر إلى المخابر.
لا يمكن أن تتحضّر دفعة واحدة، وكأنه انتقال من مكان إلى آخر، التحضّر تدفق طبيعي تتنامى معه الأخلاق والسلوك والتفكير باتجاه الانفتاح والنبل وأنسنة الطباع، التحضّر حالة من التطور الواعي الذي ينعكس على طريقتك في العيش على أساس الاحترام والتطهر من كل أشكال التوحش والبشاعة التي تستبطنها في أصل خلقتك أو طارئ طباعك.
في طريق رحلة بعض الشباب من قرويته المتطينة يقف عند مرحلة من القلق والارتباك في تجسيد هوية متماسكة، فيصبح “درباوياً” في ثياب “نِقا”، فلا هو حافظ على بدويته الجافة ولا هو انسجم مع حضريته اللينة.
وربّ أشعث أغبر رجحت كفته في التحضّر على ذو الهندام المتأنق.
فرق أن يكون الانفتاح سابقاً على التنمية، وأن تكون التنمية ضيفاً ثقيلاً على الانغلاق.
بإمكانك أن تزور مدينة تنام في غرب البلاد أو شرقها، أو أخرى تقبع في وسط البلاد أو جنوبها، لتلمس الفرق الجائر بين مجتمع تدرّب على الانفتاح قبل أن تحلّ فيه التنمية، وآخر يشتري التنمية في شكل منتوجات صناعية وهو على المستوى نفسه من الانغلاق؛ وقتئذ تصبح التنمية مجرد مضاف صبغي لا يعبر عن هوية حقيقية.
وهذا ينتج مجتمع التضاد الحضاري، التناقض في أبشع صوره، “الدرباوي” ممتطياً مقعد سيارة فارهة يفجر إطاراته في شارع يتقمص هوية شانزلزيه باريسي، أو الحفاة العراة يتسكعون في مول تجاري بماركات فاخرة ضمن بنيان متطاول.
مدن الانفتاح السابق على التنمية، قابلة للتعايش، يعمرها الإنسان المتحضر قبل شوارعها المرصفة، لا تؤمن بنمط المجتمعات المنكفئة والمتعصبة لسلالتها، لا تلفظ الطامعين في الالتحاق بديمغرافيتها، لا تمارس رفضاً للمقبلين إليها، تبتلعهم بطريقة مهذبة تصهر بدائيتهم في رحى مدنيتها المتقدمة.
وهنا يبدو الفارق بين تنمية تكون نتيجة طبيعية لإنسان واعي، وبين أخرى تختلقها صدفة عابرة أو طفرة لا تدوم طويلاً.
تعليقات
إرسال تعليق