التخطي إلى المحتوى الرئيسي

انتصر لطينتك الأولى



أراك مقززاً وأنت تتقمص أثواباً لا تليق بك، ولا تنضبط على قياسك أو تتفق مع مقاسك، ترتدي أقنعة متكاثرة، فإذا أصبح يوم تناولته وإن أمسى خلعته، تقف في مقام لا يناسبك وتحاول أن تكون ذاتاً لا تنتمي إليك.
وأنت في سعيك الزائف هذا، يحترق العمر بين يديك، ويعتريك إرهاق حاد يكاد يقضي عليك، ويفتك بك القلق وأنت تبحث عن رداء يشتملك وراحة تحيط بك، ولكن هيهات وأنت المفتون بالتقليد والمبتلى بالتبعية.
ما بالك! كل يوم وأنت في شأن، تجرب كل ما يخطر ببالك، وتنشط لاقتفاء أثر كل ملفت، وتهرول عبثاً وراء شخوص متناقضة وأحوال متراكضة.
وربما ينبو عنك اللوم إذا كان هذا حالك في مراهقتك وصباك، أما وقد فعلت هذا وتفعله وأنت تدرج بالقرب من سن الرشد وعلى حافة الرجولة، فإنك حقيق بالتقريع وجدير بالمحاسبة.
بإمكانك أن تتأنق في ملابسك، تضع سلسالاً يتدلى من عنقك، أن تتنكر للهجتك الريفية، أن تغير محيط أصدقائك كأنك تخلع ملابسك من فوق جسمك أو تغير جلدك، أن تنغمس في مدينتك الجديدة وتزدري قريتك البائسة، أن تعيش غاية ما تستطيع من صور التحضر المديني البارد، أن تلاحق الموضات وتستعجل ركوبها وكأنك تدفن بقاياك المتطينة من غبار قريتك الجنوبية المتوحلة.
بإمكانك أن تنحت لقبك الظريف الغاص بحروف لاتينية براقة وتواري اسمك التقليدي البشع، أن تنسحب من ارتباطاتك وواجباتك الاجتماعية المتخلفة وتتمرد على طريقتك الأولى، أن تلتقط لك صوراً مصبوغة بالتعديلات والتأثيرات حتى تظهر أكثر فخامة وأنت تقبض على كوب قهوة إيطالية لا تستاغ، وتنكر أي صلة بخبز التنور أو قهوة جدتك المرة.
بإمكانك أن تذوب كمداً على أغاني جاستن والشاب زين التي يغلب ضجيجها على عباراتها، وتلوم أهل بلدتك على طربهم المزعج وطريقتهم الشعبية في الاحتفال.
بإمكانك وبسهولة تامة أن تعيش حلمك الواهم بالتحضر الذي لا يتعدى الشكليات والحياة المتعصرنة، ويبقى سلوكك رجعياً وطريقة تفكيرك تجسد منتهى التخلف وأخلاقك مزيج من رجعية الريف وبشاعة التمدن.
التحضّر نوع آخر من التفكير والأخلاق وطرائق المعيشة النبيلة، فلسفة متكاملة للتغيير تتجاوز المظاهر إلى المخابر.
لا يمكن أن تتحضّر دفعة واحدة، وكأنه انتقال من مكان إلى آخر، التحضّر تدفق طبيعي تتنامى معه الأخلاق والسلوك والتفكير باتجاه الانفتاح والنبل وأنسنة الطباع، التحضّر حالة من التطور الواعي الذي ينعكس على طريقتك في العيش على أساس الاحترام والتطهر من كل أشكال التوحش والبشاعة التي تستبطنها في أصل خلقتك أو طارئ طباعك.
في طريق رحلة بعض الشباب من قرويته المتطينة يقف عند مرحلة من القلق والارتباك في تجسيد هوية متماسكة، فيصبح “درباوياً” في ثياب “نِقا”، فلا هو حافظ على بدويته الجافة ولا هو انسجم مع حضريته اللينة.
وربّ أشعث أغبر رجحت كفته في التحضّر على ذو الهندام المتأنق.
فرق أن يكون الانفتاح سابقاً على التنمية، وأن تكون التنمية ضيفاً ثقيلاً على الانغلاق.
بإمكانك أن تزور مدينة تنام في غرب البلاد أو شرقها، أو أخرى تقبع في وسط البلاد أو جنوبها، لتلمس الفرق الجائر بين مجتمع تدرّب على الانفتاح قبل أن تحلّ فيه التنمية، وآخر يشتري التنمية في شكل منتوجات صناعية وهو على المستوى نفسه من الانغلاق؛ وقتئذ تصبح التنمية مجرد مضاف صبغي لا يعبر عن هوية حقيقية.
وهذا ينتج مجتمع التضاد الحضاري، التناقض في أبشع صوره، “الدرباوي” ممتطياً مقعد سيارة فارهة يفجر إطاراته في شارع يتقمص هوية شانزلزيه باريسي، أو الحفاة العراة يتسكعون في مول تجاري بماركات فاخرة ضمن بنيان متطاول.
مدن الانفتاح السابق على التنمية، قابلة للتعايش، يعمرها الإنسان المتحضر قبل شوارعها المرصفة، لا تؤمن بنمط المجتمعات المنكفئة والمتعصبة لسلالتها، لا تلفظ الطامعين في الالتحاق بديمغرافيتها، لا تمارس رفضاً للمقبلين إليها، تبتلعهم بطريقة مهذبة تصهر بدائيتهم في رحى مدنيتها المتقدمة.
وهنا يبدو الفارق بين تنمية تكون نتيجة طبيعية لإنسان واعي، وبين أخرى تختلقها صدفة عابرة أو طفرة لا تدوم طويلاً.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...