أزمة هذا التفكير الذي أراد 'بعبقريته' إحداث التوازن في الذهنية الاجتماعية، أنه أسرف في التخويف وأمعن في تسويق الترهيب سبيلا للحفاظ على الناس وحمايتهم من المعاصي.
العرب عمر علي البدوي [نُشر في 25/06/2015، العدد: 9959، ص(9)]
الحالة الوعظية المتوترة التي تضخمت أدواتها وزادت فعاليتها إبّان الصحوة الدينية، صورت الذنب وكأنه جريمة لا تغتفر، وتجاوز لا يمكن أن يحدث إلا ممن استبد به الشيطان وذوى لديه سلطان الإيمان، وهو مسرف على نفسه وسادر في غيّه، هذا لو أنه ارتكب معصية من اللمم وتجاوزا من صغائر الذنوب، أما إذا تجاوز الخطوط الحمراء وارتكب كبيرة ماحقة أو ذنبا مع الإصرار والترصد، فإنه شق طريقه إلى جهنم واختار مقعده من النار يوم القيامة.
لم يعد الذنب، في تفكير الوعّاظ ولا ذهنية المجتمع المنضبطة بإيقاع الصحوة، جزءا من طبيعة الإنسان التي تتسع للضعف والانهزام أمام إغراء المناطق المحظورة، ولا من تكوينه الذي ينطوي على الخير والشر، والتقوى والفجور في آن معا.
نحن نذنب لنستغفر، والاستغفار عبادة عظيمة تتحقق في أعمق صورها من الانكسار والتذلل بين يدي الله عندما تقع في خطأ أو تقصير.
نحن نذنب لنتوب، وهو باب مشرع حتى تقوم القيامة، ولا يكون هذا لو استبعدنا فرضية أن يقع الإنسان في معصية.
نذنب لنكتشف ضعف الإنسان وقصوره، وأنه يشق عليه طلب الكمال في كل شيء، أو يتسلل إلى داخله شعور بالعجب والنزاهة المطلقة فيعلو على نفسه ومن سواه.
نذنب لنتعرف على رحمة الله وواسع مغفرته وجميل عفوه، عندما نلحّ عليه بالاستغفار ويسحّ علينا بالنعم، نذنب ويلفنا بستره الذي لا يكشف عوراتنا، نذنب وينزل حتى سماء الدنيا ويقبل أوبتنا.
أرادت الحالة الوعظية الصحوية أن تحمي مجتمعها من نتائج الذنوب، وزادت من تحميل المسألة فوق طاقتها من الآثار الكارثية التي تلحق بالبيئة والبشر لأنهم يسرفون في الذنب ويعصون الله. وهي سبب تأخر المجتمعات، وفوات حظ الإنسان من النجاح والتفوق، وهي وراء تشرذم الأسر وتشظي الجماعات، وعلة فقر الإنسان وجوعه، وهنا يقل اعتبار الأسباب الطبيعية والموضوعية التي تتدخل في مسألة التقدم أو التأخر والفقر أو الجوع والتشرذم أو الالتئام.
وتضعف النظرة العلمية والمنطقية للأشياء، ويسود التفسير الغيبي، وتتضاعف الظواهر الاجتماعية السلبية والتقاليد المعوّقة لحركة المجتمع العفوية، ويكون ذلك مظلة فضفاضة لاستغلال المنتهزين ورواج سوق المهرجين، بينما تعبث المفاهيم المغلوطة بمقدرات الحاضر والمستقبل.
يخشى أساطير الحالة الوعظية الصحوية على الناس من آفة التواكل، والاعتماد على جانب الرحمة الإلهية في الحياة مما يعين عليهم الشيطان فيغريهم بالمعاصي ويحرضهم على كبائر الذنوب، وتنجاب له النفس التي استسلمت لرحمة الله واستسهلت عصيانه.
وأزمة هذا التفكير الذي أراد “بعبقريته” إحداث التوازن في الذهنية الاجتماعية، أنه أسرف في تغليب التخويف وأمعن في تسويق الترهيب سبيلا للحفاظ على الناس وحمايتهم من حمم المعاصي، ولكنه ضاعف في نفخ فكرته وغالى في مذهبه، واستهلك الخزينة الشرعية التاريخية وزاد عليها من مبتكراته الحديثة وإضافاته المخترعة حتى أصبحت أبعد ما تكون عن الاتزان والوسطية.
وفي سبيل “مشروعهم النبيل” لتسييج المجتمع بجنود أفكارهم العتيقة، ابتكروا حظيرة المذنبين، وجردوا الفاسق بأبسط ذنب من طبيعته وحقه في مشاركة المجتمع، وتقدم “العيب وكلام الناس” على رأس المخاوف التي تستبد بالمذنب، ثم أصبحت على رأس الأدوات التي يستخدمها رواد الوعظ لممارسة “الإبعاد الاجتماعي” وذلك كله بغرض حماية المجتمع كما يظنون.
يبدو الغرض “نبيلا” للوهلة الأولى، تحمس لذلك الصادقون من سادة المجتمع ورعاعهم، وربما نبت في إطار ذلك نفعيين وطلاب شهرة زادوا من سعير الحرب المفتعلة، ولأجل ضمان موقع الصدارة اشتغلوا على مضاعفة الفكرة وتكثيف استخدامها بطريقة جعلت المجتمع مرتهنا في مرحلة الانفعال الوعظي.
مثلما أصبح المجتمع منحبسا في الحالة الوعظية الصحوية، أضحى الفرد منهزما أمام هذه الفكرة المغلوطة، تستفزه كارثية الوقوع في الذنب، وتشده فطرته الخاضعة لناموس الضعف والشهوة، فهو إما جامد أو غارق، متشدد أو مسرف، وأبعدت “المجاهدة”، بوصفها أكثر صور التقوى، وألصقها بالفطرة عن تفكيره أو حسبانه.
الرابط : http://www.alarab.co.uk/?id=55582
تعليقات
إرسال تعليق