بالنظر إلى نتائج الانتخابات التشريعية في تونس وتراجع حظوظ حركة النهضة في صدارة الصندوق الانتخابي، هل يمكن القول إن تيار الإسلام السياسي يتراجع حضوره بالفعل في واقع العرب السياسي؟
تراجع حظوظ حركة النهضة في الانتخابات التونسية الأخيرة هو أول اختبار حر ونزيه يكشف عن تموضع حركات الإسلام السياسي في راهن العرب، إذ عانى الإسلام السياسي قبل وبعد الثورات العربية التي انفجرت في عدد من الدول العربية من حالات الإقصاء والتنكيل، كان آخرها ما حلّ بجماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد إسقاط حكومة محمد مرسي واعتلاء قائد الجيش عبد الفتاح السيسي سدة رئاسة مصر بعد انتخابات لم ينافسه فيها سوى الناصري حمدين صباحي الذي كان يحمل معه اعترافًا بخسارته قبل خوضه غمار الانتخابات.
هذا الإقصاء تجسد كذلك في حالة الثورة المضادة التي جاءت خصيمًا لحركات الإسلام السياسي أكثر منها نصيرًا للفلول أو رغبة في استعادتهم لمقاليد البلاد التي خسروها بعد عقود من الحكم المرتبك.
ثورة مضادة تشتعل حربًا في ليبيا بين قوات اللواء المتقاعد حفتر وبين تشكيلات من الثوار ترتبط غالبًا بتيار الإسلام السياسي، وأخرى في اليمن يديرها حلف الرئيس المخلوع صالح مع أعداء الأمس من الناقمين الحوثيين ضد بيت الأحمر صاحب الحلف التاريخي مع جماعة الإخوان المسلمين عبر التجمع اليمني للإصلاح، بينما تستمر الحرب في إشعال وإشغال مصر ويبدو أن الجولة الآن لخصوم الإسلام السياسي الذي يقبع أغلب رموزه في السجن.
يترافق مع ذلك آلة إعلامية وخطابية شديدة الوقع في تشويه الإسلام السياسي ومهاجمته عبر كل آلياتها وقدراتها المالية والإعلامية وربما التسليحية أحيانًا.
لم يبق للمحللين من فرص لاستكناه حجم حضور أحزاب الإسلام السياسي في الخيار الانتخابي العربي إلا تجربة الثورة التونسية التي كانت تمشي محاذرة خلال سعيها الانتقالي إلى ضفة دولة مدمقرطة بنجاح، وعندما استوت التجربة التونسية على جوديّ الانتخابات التشريعية جاءت حركة النهضة بوصفها حزب تمثيل الإسلاميين متذيلة الترتيب الأولي للفائزين، يتقدمها حزب نداء تونس الوريث التقليدي للحكومة المخلوعة تقريبًا.
ورغم أن النتائج لا تكشف عن حقيقة قاطعة بتراجع شعبية الإسلام السياسي وأحزابه ولكنها تعطي إلماحة هامة عن الأثر الذي تركته آلة التشويه والهجوم الإعلامي الذي مورس ضدها، كما أنه يقلل من رومانسية الانطباع الذي تحقق لقطاعات الإسلام السياسي بعد نجاح الثورات مباشرة.
إذ يبدو أن حصول حركات الإسلام السياسي على مواقع متصدرة ومتقدمة في نتائج المجالس التأسيسية الأولية في أول مراحل ما بعد الثورة كان نتيجة طبيعية لفراغ الساحة إلا من الإسلاميين الذي صادف كونهم أكثر استعدادًا واستجابة للظروف السياسية الطارئة من غيرهم.
كانت الشعوب تريد أن تتخلص من أنظمة الاستبداد بأي طريقة وعبر أي اختيار ينقذها من عهود الظلم، ولن يتحقق هذا حسب ظنها إلا من خلال أكثر أعداء الأنظمة صخبًا وقتها وهم الإسلاميون، كانت سيولة الحرية التي تحصلت عليها الشعوب عقب الثورات مربكة للحسابات وغير متوقعة، وهذا سرّع من وتيرة الاختيار العشوائي غير المحسوب، وكل هذا الخليط جعل المسألة ضبابية إلا من وضوح تربع الحركات الإسلامية على قمة المشهد الانتصاري المنفعل.
كما إن عهود الديكتاتورية المخلوعة كانت تمارس أقسى أنواع الإقصاء للإسلاميين كونهم الخصم الأكثر شعبية ومناكفة، مما زاد من جماهيريتهم وأعطش الشعوب لاكتشافهم وتجربة ما لديهم، إلى جانب خطابهم الديني المحافظ والمنسجم مع هوية الشعوب العربية التي لا تملك خبرة ديمقراطية وانتخابية كافية لتقييم البرامج وتفكيك الشعارات، يبدو أن كل هذه الظروف تضافرت لتسجيل أرقام سارة للإسلاميين أول الأمر ومستفزة للأنظمة التقليدية في المنطقة التي خاضت ثورتها المضادة بغرض إعادة الأمور إلى نصابها على هوى تقديراتها.
ويبدو الوقت مبكرًا للحديث عن انمحاء أي أثر أو دور للإسلام السياسي، ولكن المؤكد أن أفضل فرصة لمعرفة ذلك أو تحقيقه حسب رغبة خصومه هو التوجه العادل والمتساوي إلى الفرص الديمقراطية المتكافئة والخيارات الانتخابية التوافقية وخلق برامج سياسية منافسة وجادة في تحقيق الرفاه الاقتصادي والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية ومكافحة الفساد، وسوى ذلك من أساليب القمع والإقصاء الذي يبلغ درجة الدم فإنها ستزيد من شعبيته واستقراره في الأرض بخلاف ما يراد له أحيانًا.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق