أرسل ملك الفرس رسولاً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما دخل المدينة سأل أهلها : أين ملككم؟
فأجابوه: ليس لدينا ملك بل لنا أمير ، وقد ذهب إلى ظاهر المدينة .
فذهب الرسول في طلب عمر - رضي الله عنه - فرآه نائماً في الشمس على الأرض فوق الرمل وقد وضع عصاه كالوسادة والعرق يتصبب من جبينه .
فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال : رجل تهابه جميع الملوك وتكون هذه حاله !! ولكنك عَدَلت فأمِنْت فنِمْت يا عمر .. وقد أسلم رسول ملك الفرس بعد ذلك .
يفترض بالمسارات الديمقراطية المدنية تقليص الحضور العسكري وليس مفاقمته لأنها تحقق التوافق والتراضي الذي يحفظ دماء الأطراف، ويضمن مستقبل البلاد، ويحقق الاستقرار .
ويمكن أن تزيد حدة التواجد العسكري في بلاد التوافق المدني خلال حالات طارئة مثل الخطر الخارجي الداهم ، أما حالات الاستقطاب الداخلي فلا ترقى إلى مستوى العسكرة القصوى إلا إذا كانت العملية الديمقراطية مختلة بالأساس أو صورية منزوعة من جوهرها .
في البلدان السلطوية والشمولية يبدو مألوفاً الاحتشاد العسكري بالبدلات الحربية المموهة ، ستجدهم أرتالاً في الملاعب والمسابقات والشوارع وجميع المناسبات ، يعززون الإحساس بسيطرة الدولة ويشبعون رغبة الحاكم في التمدد البشع ، وهي الطريقة المثلى بالنسبة إليه لإماتة كل نية للتمرد أو رغبة في التغيير .
الخوف الذي يحيط بالوفود والمواكب الرسمية عبر أحزمة الحماية العسكرية الازدواجية إما أنها مبالغة في الحفاوة حسب التقاليد الأعرابية أو مبالغة في تقدير درجة الخطر الذي يتهدد الزيارة وصاحبها ، وربما كان ذلك صورة كاشفة عن واقع التأزم وعن مسار بعض البلدان التي لن تغادرها حالة العسكرة وستبقى مكبلة بتاريخها وحاضرها ومستقبلها القاتم .
في كل بلاد الناس كان حكم العسكر طريقاً إلى الدكتاتورية والفساد وتراجع معدلات التنمية غالباً ، وكان الحكم المدني سبيلاً سالكاً إلى التنمية والازدهار وتحقيق التوافق ، حجة ضعف المكونات السياسية المدنية أو تضخم التيار الإسلامي وقلة كفاءته لا يكفيان سبباً لتسلم العسكر مقاليد الأمور وزمامها ، وهذا عيب في كل الأطراف الفاعلة ، إذ إن اجتماع الأطراف المدنية يكفي للسير بالبلاد إلى السلامة من اقتتال المدنيين وتغلب العسكر ، والله الهادي إلى سواء الديمقراطية والسبيل .
صحيح أن بعض البلاد لها حالاتها الخاصة ، وأن الاستقرار والمركزية مطلوبان ، والأمن مقدم على استحقاقات الديمقراطية أحياناً ، وأن المنطقة تمر باضطراب غير مسبوق ، وأن أعداء القطر والإقليم والكون تترصد لحظة ضعف للانقضاض ، وأن هذه الحجج تساق كثيراً لمواجهة التيار المنادي بالديمقراطية سبيلاً ومنتهى ، ولكن النقاش الجاد والواقعي والموضوعي سينتهي إلى أن مسار العسكر لن يؤدي إلى مخرج حقيقي وسيدفعنا إلى دائرة مغلقة والتجربة برهان .
عيب بعض دول الثورات العربية في نخبها ، إذ فوتت فرصة تاريخية عظيمة لن تتكرر كثيراً في عرض المستقبل ، اقتتلت على مناخ الحرية الضيق وتقاضمت عجينة الديمقراطية ولم تنضج بعد ، تهافتت على الكرسي ولم تلتفت لمؤامرات الاجترار الفلولي الذي ابتلعها وأيقظها من حلمها المنتظر ، تبدو الأوبة سريعة في عمر الفلول الذين التقطوا أنفاسهم في وقت قياسي ولكن سطحية الإسلاميين وهشاشة المدنيين عجّل من محنة بلدانهم وأنضج طبخة الثورة المضادة .
يبدو رجل الأمن في البلدان المستقرة والمتمدنة في صورة محببة إلى جمهور الناس ، يستمد قيمته من انتصاره لقضاياهم وأدواره الإغاثية والإنسانية ، بخلاف صورة رجل الأمن في بعض البلاد العربية التي ثارت على حكامها ، إذ يكفي أن تذكر مفردة " الأمن المركزي " أو " جهاز أمن الدولة " وسواها من التسميات التي ينخلع منها قلب المواطن العربي البسيط فقد كانت تنطوي على مليشيات فاسدة وفروع للمخابرات أوغلت في التنكيل بشعوبها والعبث بمستقبلهم .
التصقت أجهزة الأمن بالحاكم أكثر من التصاقها بوظيفتها النبيلة ، استخدمها الحاكم لإطالة عمر ديكتاتوريته ، تحولت " وزارات الداخلية " إلى منظمة بوليسية شديدة البأس على الشعب ، وذبلت قيمة الأمن المعنوي في النفوس .
قبل الثورات برمق كان " الأمن " هو الوتر الذي تعزف عليه الدولة ، وهو الخدمة التي يساوم بها المستبد ليحصل على شرعية الاستمرار ، كانت تبدو " مملكته " أو " مزرعته " أو " عزبته " متماسكة في ظاهرها ولكن الظلم والاستبداد والفساد ينخرها من الداخل وبقوة ، كان " التهديد الأمني " هو الخطر الذي يطل برأسه في حال أزيح من كرسيه وهو الورقة التي يضغط بها على الشعب من جهة وكأنه وقاية من ضياع الدين وفساد الدنيا ، وعلى المجتمع الدولي من الجهة الأخرى وكأنه ضمانة من جماعات التشدد الديني أو احتراب الأقليات .
ولعل ثورة المصريين في تاريخ يتزامن مع " عيد الشرطة " كافياً للدلالة على حجم الشقة التي اتسعت بين الشعب وقطاعات الأمن الحكومية ، لقد جاءت الثورات على الحاكم من الباب الذي ظن منه السلامة ، وكانت معادلة الأمن/الخوف هي القشة التي قصمت ظهر البعير .
كانت " الفتنة " فزّاعة شرعية بصبغة بوليسية ، والخوف من آثار التغيير والثورة على أرزاق الناس وأرواحهم حاضرة في خطاب المستبد الذي تمشيخ ليشتري آخر ما يدافع به عن نفسه ، استجر ذكرياته الدينية وصفّ بين يديه خبراءه الشرعيين الذين زلزلوا المنابر والحلقات بتعبيد الناس لحاكمهم وتطويعهم لولاة أمرهم ، وفي الحقيقة هم لا يقومون إلا بتأجيل المشكلة وتنويم الأزمة قبل أن تنفجر بوتيرة أكبر في لحظة ما من المستقبل القريب ، والقريب جداً .
بعض الدول تعاني حالة من تضّخم القطاع الأمني والعسكري ، وهو تضخّم من جهات متعددة :
فعلى صعيد " التصور " تتجاوز قيمة رجل الأمن من مجرد قطاع خدمي ومؤسسة تنفيذية عرضة للإنجاز والتقصير إلى خط أحمر متصل بسيادة البلد واستقراره ، وبذا يكون انتقاده صورة من إثارة الفتنة والبلبلة وشق الصف ، وهذا التصور المتوتر يكشف عن هشاشة حالة التماسك والاستقرار المفترضة ، ويكشف هذا الارتباك في توصيف الجهاز وارتفاع درجة الحساسية من تناوله بالنقد والمعالجة عن قلق ضمني وانخفاض مستوى الثقة المتبادلة بين أطراف المشهد .
وعلى صعيد " الواقع " تعاني بعض الدول من حالة تضخّم كمي في القطاعات الأمنية والعسكرية ، فبالنظر إلى التاريخ تسرع الدول إلى زيادة تعدادها من المجندين وحيازة أعلى أرقام التسليح في حالات احتمال الحرب أو بروز مماحكات مع جيرانها ترتقي إلى مستوى النية في خوض حرب ، وكذا الدول التي تعتمد على قدراتها الأمنية لتثبيت عرى الحكم ، فإنها تعيش في حالة طوارئ دائبة وتزيد لديها أعداد المنخرطين في هذه الأجهزة التي تحظى بتقدير الحاكم وإغداق الخزينة وتطويق مكاسب المتنفذين وحيازة منافع متبادلة .
وعلى صعيد " الدور " فإن الحالة الأمنية والبوليسية تتضخّم إلى الدرجة التي تجعل من دولة ما سجناً يحبس شعباً بأكمله ، فمفردة الأمن تتدخل في تنشئة الطالب على قدر من التوجس والاستلاب ، وتقحم في تفسير المواقف والتعامل معها ، وربما تحشر في سن القوانين والأقضية مثل قوانين مكافحة الإرهاب ، فيحبس أهل الرأي المسالمين في نفس الزنزانة التي يقبع تحت سقفها أهل الدماء المتشددون .
وربما تبلغ حالة التضخم إلى درجة من الخبث الأخلاقي التي تسمم نفوس الناس وتبث الخوف في كل زاوية ، وتسود حالة من التخابر لكسب رضا أجهزة الأمن حتى يشك الأخ في ابن أمه ويظن الابن بأبيه السوء .
في الحرب ضد الإرهاب تبدو الحلول العسكرية والأمنية منفردة في قائمة الحلول ومتربعة على خطط العلاج ، رغم أن الإرهاب مظلمة سياسية في لبوس ديني يوظف شباباً منتقماً على ظروفه المعيشية والاقتصادية والاجتماعية البائسة والتي تنوء بمسؤوليتها الدول غالباً ، كما أن قطاعاً عريضاً من الإرهابيين يمارسون ردة فعل سياسية تجاه حالات من الإقصاء والاستبداد والبغي التي تعرضوا لها من حكوماتهم ، وقليلاً ما يكون الإرهاب من أجل طموح سياسي بحت ، وغالباً يكون دافعها البحث عن إشباع سياسي لا يجدونه في أوطانهم الأصلية ، أو التعبير عن هوياتهم الصغرى وطموحاتها الجيوسياسية التي ذابت في مشاريع سايكس بيكو وحكومات ما بعد الاستعمار الهشّة .
وبرغم أن أمريكا وبرفقة حلفائها العرب والأجانب خاضت حروباً وفككت دولاً لإنقاذ العالم من خطر الإرهاب ، لا يبدو أن الحل العسكري كان مجدياً ، فالإرهاب استعاد عافيته وهو يتمدد بشكل بشع وبوتيرة أسرع من قبل ، ويجد له أنصاراً في بقع متعددة من العالم تنتجهم حالات الفساد والاستبداد السياسي .
إن للأمن ظروفاً موضوعية تجعله أكثر ثباتاً واستقراراً من مجرد قبضة حديدية تخنق الوطن وتجثم على صدر المواطن ، وحالة التراضي بين الحاكم والمحكوم التي تأتي في صورة دستور أو عقد اجتماعي أول هذه الشروط التي تضمن لكل وطن استقراره وازدهاره ، كما أن القوننة تحافظ على انضباط الأجهزة وتحميها من التوسع البشع في أدوارها أو استغلالها من طرف ليستقوي بها على الآخر .
تحاول الدول المتمدنة والمتحضرة أن تقلل من حضورها في واقع الناس حتى تكاد الدولة الحديثة تذوب وتتلاشى من شدة احترامها لحريات الناس وخصوصياتهم دون أن يتعدى ذلك إلى انفلات أو تجنّ ، وهو نابع من الشعور المتنامي بالمسؤولية المشتركة والمواطنة الفاعلة الناتجة عن عقد اجتماعي معتدل ومتماسك ، إذ يصبح الأمن مسؤولية الجميع لأنه مكسب وطني ونتيجة طبيعية لحالة الانسجام بين أطراف المشهد ، وتجري مسائل النقد والتعبير الحر في أفلاكها الطبيعية كوسائل مشروعة وسلمية لإحداث تغيير هامشي لحماية ورعاية المسيرة الثابتة نحو الازدهار والنماء .
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق