التخطي إلى المحتوى الرئيسي

استفزاز الليبرالية في الواقع السعودي





تبدو لفظة " العلمانية " وكذا " الليبرالية " مستفزة للمثقف السعودي المحافظ ، وأكثر استفزازاً للرجل العادي ، إذ تنسدل في ذهنه كل التعبيرات والتفسيرات المزعجة التي تتسبب فيها هاتين اللفظتين .
عقود من الترويع والتشنيع على كل ما يمس أو تنطوي عليه العلمانية والليبرالية ما زالت جاثمة على تفكير الفرد السعودي ، سواء من كان على درجة من الوعي أو الآخر الذي يرتاح إلى رأي غيره .
مجتمع يعاني غالب أهله من ضعف القدرة على فهم هذه المصطلحات الشائكة وإصدار الحكم عليها ، بفعل تواضع استعداده العلمي أو نتيجة التبعية المطلقة لرموزه الأيديولوجيين والاطمئنان إلى أحكامهم حول المصطلحات ومضامينها ، حتى لو كانت تلك الأحكام عمومية ومتهافتة ، ما يهم حسب عاداته العلمية البسيطة أن يقول بها رجل ملتحي يظهر عليه سمت الصلاح والتقى .
في ظل هذا التعامل المنحاز مع المصطلحات تعاني بعض المضامين الناضجة من الاستبعاد رغم صلاحيتها بحجة أن لها اتصالاً بمصطلحات مستفزة ، حتى أنه يمكن رفض الأدوات والآليات المحضة فقط لأن الآخر سبق إليها وكأنها أصبحت ملكاً له وحكراً عليه ، سيطرة الأحكام التعميمية المضللة يؤجل التشبع ببعض القيم العصرانية اللازمة لتحديث واقعنا .
هذه الحالة المنافية تماماً للتقليد العلمي والثقافي الناضج في تناول المصطلحات وحمولاتها لا تنوء به مجرد الرموز الدينية ولا جمهورها بولائه الأعمى ، ولكن بعضاً من المسؤولية يتحملها الفاعلون في فضاء الوعي والفكر والثقافة ممن آمن ببعض الأفكار الليبرالية والعلمانية ونقلها بعواهنها قبل أن يقيس حجم الاستجابة الاجتماعية لذلك .
نتج عن الحماس غير المنضبط لأفكار العلمانية والليبرالية مناكفة شديدة مع المحافظين حول قيمة الثوابت ، وبقيت المرحلة في خليط من ردات الفعل المتبادلة ، وكان الفضاء مشحوناً بالتدافع الحاد بين الأطراف الفاعلة في المشهد.
لم تقعّد هذه الأفكار في واقع الناس ولا ثقافتهم ، كان الفاعلون في التيار غير الإسلاموي يبحثون عن أي فكرة تنطوي على ما يخالف السائد ، استنجدوا بكل المكتنزات المغايرة ، بحثوا عن ضالتهم في كل مجال وإطار ، ومع سهام الإسلاميين المنتصبة لمقاومة كل وافد ، زادت ضبابية المشهد وارتبك الجميع في مواءمة الموقف .
مسيرة هذين المصطلحين في الذهنية المحلية لم تكن عفوية كاستجابة لحاجات العصر وتدفق التاريخ ، كما أنها لم تكن علمية ومنطقية عبر تبيئتها في واقع جاف ومنغلق ومحصّن بنرجسية تراثية صلبة ، ولذا استبعدت كل الأفكار المتصلة بهما رغم إلحاحها على واقع الناس وفي مستقبلهم .
وكمثال على هذا ؛ يمكن أن تجد في " العلمانية " شكلاً من تطوير دور رجال الدين وإعادتهم إلى ثغورهم اللائقة بهم ، والتخفيف من تدخلهم في المجالات التي لا يملكون أدواتها ولا يتقنون مهاراتها ، كما أنها تساعد أحياناً في ضبط موازنة أدوارهم والحد من تضخّمها في الفضاء العام بما يمنع سيطرتهم كطبقة تحتكر حيزاً من السلطة الزمنية والدينية .
في مقابل ذلك يمكن لجملة  " لحوم العلماء مسمومة " أن تنسف كل جهد لتأصيل النظرة العلمانية الموضوعية في تقدير حجم الفاعل الديني في الواقع الثقافي والمعادلة السياسية ، العبارة مشاعة ومتداولة بقوة ، وتكاد تصل إلى درجة النص المقدس الذي لا يرقى إليه شك أو نقد ، وهي تعبير عن ثقافة مناقضة وممانعة وليست مجرد جملة عابرة ، بل تكشف عن نسق ثقافي مصمت ومطبق على الوعي . 
وكذا بالنسبة إلى " الليبرالية " التي تدعم خلق فضاء حر ومتاح ، يمكن أن تصطدم وببساطة بورطة الحرية كمعنى ولفظة في وحل من الاتهامات المتواترة على فسادها وإفسادها ، سيما وأنها تحشر غالباً في زاوية الانفلات الأخلاقي متجاوزين قيمة هذا المعنى في المجال السياسي والفكري كوعاء متسامح ونابض لإثراء المجتمع وتجدده .
ما زالت العقلية مرتهنة إلى التحليل المحبوس في انطباع المصطلح ، رغم أن الواقع يتعطش أحياناً لبعض أفكار العلمانية والليبرالية لتنشيط الفضاء الاجتماعي والثقافي ورفع مستوى استجابته لحركة التاريخ وتدفق الزمن الطبيعي .
ولكن تشويه المصطلح حاصر كل فاعلية لتلك الأفكار وحجز المجتمع عن تشربها وتقبلها ، ولو أن تلك الأفكار والمضامين استوطنت وانبعثت بدثار وشعار لا يرمز إلى العلمانية والليبرالية ربما وجدت لها قبولاً واحتفالاً لائقاً بها .
هذا لا يعني أن أزمة توطين المحتوى العلماني والليبرالي في واقعنا المحلي تكمن في مجرد الانطباع المتحيز عن مصطلحاتها فقط ، بل هناك الكثير من المعوقات السياسية والثقافية المتراكمة تأتي في مقدمتها سيطرة خطاب أحادي إسلاموي انفرد بصياغة العقلية الجمعية المرتهنة إلى أحكامه وقراراته بالإضافة إلى خشية القوى النافذة من مزاحمة سلطاتها المطلقة وصلاحياتها الموسعة .
فضلاً عن التجارب غير السارة لمجاميع متناثرة من العلمانيين والليبراليين في المحيط العربي ، خذلت مبادئ تؤمن بها وناصرت المستبد وناقضت أفكارها .
غير أن حساسية المصطلح تأتي بمثابة باب موصد دون التشوّف إلى مستقبل وطني وعربي ينعم بمضامين ليبرالية وعلمانية تحقق نعيم المواطن العربي المنهك من واقعه المرهق .


الرابط :

http://elaphjournal.com/Web/opinion/2014/11/960288.html

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...