2013-9-5 |
بقلم : عمر علي البدوي / كاتب سعودي
بالمناسبة: لا أحب أنا شخصياً إقحام الدين في السياسة والعكس كذلك، وفي المقابل لا يجوز أن نستخدم تفسيراً اعتسافياً لهذا المبدأ بغرض تصفية الخصوم السياسيين أو توظيفه كفزّاعة لإقصاء المنافسين على قارعة السياسة، الإسلام السياسي تيار له وجود واقعي وبرنامج سياسي، ولأنه أكثر التيارات السياسية شعبية، و(نضالاً) ضد فساد السياسيين المتغلبين، فإنهم عادة ما يلصقون به تهمة إقحام الدين بالسياسة لمجرد تشويهه والتخلص من صداعه.
ربما كان للأحزاب الإسلامية السياسية أخطاء لا تغتفر، ولكن الحل الأسلم هو دفع هذه الأحزاب إلى تصحيح مكوناتها الفلسفية والفكرية، وهذا بتأسيس قاعدة دستورية مواطنية صادقة وإعمال أدوات الإصلاح السياسي لضمان نفاذ القانون على الجميع والخروج بدولنا العربية والإسلامية من أزمة التخلف والرجعية إلى مصاف التقدم والتنمية والنهضة الحقيقية.
لا ترقى أخطاء الأحزاب الإسلامية إلى مستوى أخطاء السياسيين الفعليين كالعسكر وثلة الليبرالية الممسوخة، ومع ذلك فإن النقد على بساط المساواة والحياد هو الطريق إلى صناعة بيئة سياسية ديمقراطية حرة، ومجتمع مدني حضاري، وضمان مستقبل تستحقه أجيال العرب والمسلمين.
منذ زمان اندلعت الحرب المبطنة بين التيار الإسلامي السياسي وبعض القوى الدولية والإقليمية التي تحافظ على التحالفات والاستراتيجيات السياسية في المنطقة، وزاد وضوح الحرب وأوارها بعد ثورات الربيع العربي التي أقلت التيارات الإسلامية السياسية دون استعداد كاف إلى سدة الحكم في عدد من الدول العربية.
ولأن مصر تقع في القلب من معادلات المنطقة الحادة، كانت مسرحاً مكشوفاً لهذه الحرب، إذ تولت جماعة الإخوان المسلمين كأكبر فصيل سياسي إسلامي حكم البلاد وتضافرت جمهورية العسكر الباطنية مع قوى إقليمية ودولية للتخندق في حرب علنية معها، وعادت تيارات الإسلام السياسي في نفس دائرة الاتهام والمسائلة والبحث والتحري.
لماذا تشكل الجماعات الإسلامية السياسية قلقاً حاداً للسياسيين بالمنطقة؟ فقبل الربيع العربي كان زين العابدين بن علي ومبارك يواجهانها بقوة ويستخدمانها ذريعة للالتفاف على الضغط الغربي البراغماتي أو للتحايل على الضغط الشعبي المتزايد، كانت ورقة "الإسلام السياسي" مبرراً كافياً لإدامة الاستبداد واستمراء الفساد.
وكانت شعرة ترخى لحظة البحث عن مخرج للانفجار الشعبي وتشدّ عند الشعور بالخوف من الانقلاب على المعادلة الراهنة، ويمكن اكتشاف ذلك عبر ثنائية الاعتقال التعسفي والإفراجات التي تأتي أحياناً في سياق مصالحة وطنية تطبيبية لامتصاص الأوضاع المتفجرة.
وُلد عبد الحميد بن عبد العزيز كشك في شبراخيت بمحافظة البحيرة يوم الجمعة 13 ذو القعدة 1351 هـ الموافق لـ 10 مارس 1933م، وحفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره، ثم التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية، وفي السنة الثانية ثانوي حصل على تقدير 100%. وكذلك في الشهادة الثانوية الأزهرية وكان ترتيبه الأول على الجمهورية، ثم التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر.
وكان الأول على الكلية طوال سنوات الدراسة، وكان أثناء الدراسة الجامعية يقوم مقام الأساتذة بشرح المواد الدراسية في محاضرات عامة للطلاب بتكليف من أساتذته الذين كان الكثير منهم يعرض مادته العلمية عليه قبل شرحها للطلاب، خاصة علوم النحو والصرف.
عُين عبد الحميد كشك معيداً بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة عام 1957م، ولكنه لم يقم إلا بإعطاء محاضرة واحدة للطلاب بعدها رغب عن مهنة التدريس في الجامعة.
* لماذا يشعر الساسة بالقلق من لغة عبد الحميد كشك؟
اعتقل الداعية المصري عبد الحميد كشك عام 1965م وظل بالمعتقل لمدة عامين ونصف، تنقل خلالها بين معتقلات طرة وأبو زعبل والقلعة والسجن الحربي، وتعرض للتعذيب رغم أنه كان كفيفاً لا يبصر منذ صغره، ورغم ذلك احتفظ بوظيفته إماماً لمسجد عين الحياة.
في عام 1972م بدأ يكثف خطبه وكان يحضر الصلاة معه حشود هائلة من المصلين، ومنذ عام 1976م بدأ الاصطدام بالسلطة، وخاصة بعد معاهدة كامب ديفيد حيث اتهم الحكومة بالخيانة للإسلام وأخذ يستعرض صور الفساد في مصر من الناحية الاجتماعية والفنية والحياة العامة.
وقد أُلقي القبض عليه في عام 1981م مع عدد من المعارضين السياسيين ضمن قرارات سبتمبر الشهيرة للرئيس المصري محمد أنور السادات، بعد هجوم السادات عليه في خطاب 5 سبتمبر 1981م، وأُفرج عنه عام 1982م ولم يعد إلى مسجده الذي منع منه كما منع من الخطابة أو إلقاء الدروس، لقي كشك خلال هذه الاعتقالات عذاباً رهيباً ترك آثاره على كل جسده رغم إعاقته.
* "الاحتساب الأخلاقي.. والاحتساب السياسي":
كان الشيخ كشك يتعامل مع المحتوى الإسلامي ككل لا يتجزأ ويدلي برأيه في كافة الأحداث والقضايا، وفي القلب منها مسائل السياسة وإدارة شؤون البلاد، وهذا ما يخالف إرادة السياسيين.
إذ لا يريد المستبدون نسخة من الإسلام الشمولي، الذي يحقق المعنى التكاملي للدين الإسلامي بوصفه جاء تاماً وراسماً للتوجهات العامة للحياة البشرية، ولا شك في أن السياسة كفعل بشري تأتي في موقع متقدم من الأهمية لم تكن بعيدة عن الأطر العامة التي تضبطها حسب الرؤية الإسلامية، ومع ذلك لم يأت الإسلام في نصوصه المحكمة وتشريعاته المعلمة بشكل نهائي وناجز لإدارة البلاد وسياسة العباد، وترك ذلك رهناً لاجتهاد المسلمين ونوابغهم مستلهمين الأصول العامة والقيم الهامة، فضلاً عن العناية بتجدد الزمان وتبدل المكان والحرص على المصالح المتحققة والمرسلة، بما يضمن تحقيق الأهداف النهائية للدين الإسلامي.
على كثرة ما ينقده الشيخ على الفنانين والمطربين ونجوم الكرة وأنهم مواطن الفساد الأخلاقي ومحاضن الانحراف الاجتماعي، لم يكن يسلم من سلاطة لسانه وإحاطة بيانه حتى الساسة والقادة، فكان يشملهم بما يراه فيهم انحرافاً عن صراط العدل وخروجاً عن حياض العقل، وكان يلمزهم بالفساد الإداري وتضييع الحقوق والإفراط في المظالم، حتى يخيّل إليك وكأنك تسمع خطاباً سياسياً خالصاً يدلي به أحد رموز الأحزاب أو تلقيه إحدى جبهات المعارضة السياسية، ولكنه ليس أكثر من رجل دين لا يجد في الله لومة لائم، ولا يحابي في الحق أحداً.
ويملك كشك ومثله من يشبهه في ذلك، عدداً من المزايا التي تجعله يشكل قلقاً للسياسيين بخلاف بقية رجال الدين ممن لا تتوافر لديه هذه الشروط، أو تزيد وتنقص حسب استعداداته الشخصية والظروف المحيطة به:
- الاستقلال والتحوط من عتبة السلطان:
كان الشيخ كشك يتمتع باستقلالية تامة في مواقفه وآرائه، إذ ثبت على مسافة متنائية عن التزلف إلى السلطان أو محاباته في كلمة أو موقف، وكان زاهداً في دنياه وتنازل عن الأموال التي تدرها تسجيلاته المليونية التي يتعطش لها ملايين المسلمين حول العالم، وكثيراً ما ردد على منبره: أنه لن يتنازل عن موقعه من الخطابة وعن مدرسة محمد –صلى الله عليه وسلم– ولو عرضت عليه المناصب وزفت إليه المقامات، وحصل بالفعل عندما رفض أن يتولى منصباً للدولة أو يبيع منبره لعبد الحكيم عامر عندما طلب منه أن يبيح دم الشهيد سيد قطب، وكان لا يتوانى عن كشف التفاصيل الدقيقة لسجنه والعذابات وجلسات التحقيق بشكل وافي وكامل.
- تناول الشأن العام:
كانت روح الشيخ كشك معلقة بالمنابر التي كان يرتقيها منذ الثانية عشرة من عمره، ولا ينسى تلك الخطبة التي ارتقى فيها منبر المسجد في قريته في هذه السن الصغيرة عندما تغيب خطيب المسجد، وكيف كان شجاعاً فوق مستوى عمره الصغير، وكيف طالب بالمساواة والتراحم بين الناس، بل وكيف طالب بالدواء والكساء لأبناء القرية، الأمر الذي أثار انتباه الناس إليه والتفافهم حوله .
ولا غرو في أن يستمر الشيخ كشك في هذا المشوار عندما صلب عوده ونضجت تجربته، إذ استمر في تناول الشأن العام سياسياً كان أو اجتماعياً، مما عرضه للاستدعاءات الأمنية والاستعداءات المخابراتية، فضلاً عن المضايقات والاعتقالات وهو متمسك بموقفه لا يحيد ولا يبيد.
- الجماهيرية والتأثير والقبول:
في بلد الاستبداد لا صورة تعلو على صورة الرئيس، ولا مكان لمزاحمة جنابه الكريم أو شخصه العظيم، وإذا ما أراد رجل دين أو سواه أن ينافس القمر في ضيائه أو النجم في عليائه، فإنه سيفتح على نفسه أبواب النقمة والهلاك، سيما إذا لم يكن في صف الطاغوت وزمرته، وأسوأ من ذلك عندما يفتح نيران انتقاده وجلاده على الرئيس أو سياساته.
- المنافسة على تفسير الإسلام:
أعاد الشيخ كشك إلى المسجد دوره الإصلاحي، وعبر منبر الخطبة انتقد الشيخ عبد الحميد كشك موقف الشيخ الشهير محمد الشعراوي على خلفية تعليقه المبالغ فيه للرئيس المصري وقتئذ أنور السادات وأمام مجلس الشعب، فيما تكررت مواقفه الحادة والناقدة لبعض أطروحات مشيخة الأزهر.
وكأنه يقدم رأياً مختلفاً في دائرة الشريعة، لكنه لا يرضي الساسة ولا ترتاح له القيادة، وبما أوتي من قبول وتأثير، كان تفسيره المختلف لبعض قضايا الشأن العام بدليل الكتاب والسنة يعتبر مشكلاً بالنسبة لمن يريد أن يكسب الدين ورجاله في صفه.
كان الشيخ كشك يتلو آية "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون"، وكأنها سوط على ظهور علماء السلطان، تسمع الآية بتفسيرها الوافي وإسقاطها الواقعي ونبضها الحي، وهذا ما زاد من قلق السياسيين على كراسيهم الوثيرة.
* "خطاب التشدد المعيق للتنمية":
لا يحمل الشيخ عبد الحميد كشك منظومة آراء تقدمية في مسائل التنمية والمجتمع والسياسة، وهو لم يشتغل على تطوير ذلك وترقية مخزونه العلمي والمعرفي بما يصل إلى درجة مشروع فكري تحديثي، فهو محض خطيب مفوّه استخدم الخزينة العلمية والفكرية المكنوزة في المراجع الإسلامية الأصلية أو التابعة، وامتاز طرحه في المقابل بالبساطة والسهولة مع حرصه الشديد على اللغة الفصحى ومزجه بالعامية للتخاطب مع عموم الناس سيما في القضايا المعيشية والمحلية.
كان يحمل هم الطبقة المتوسطة والأدنى منها، ومع ذلك لم يقدم خطاباً متشددا يصل إلى مستوى المغالاة والتطرف التي تعيق التنمية وتعطل معيشة الناس، وكانت أبرز ملكاته هي القدرة على البلاغ والتأثير في الناس ولم يمتلك مشروعاً فكرياً مستقلاً بخلاف ما كان عليه بعض معاصريه من الفلاسفة والمفكرين الذين التزموا الخط الإسلامي كالغزالي والقرضاوي وأبو زهرة وسواهم.
وبهذا يكون الشيخ كشك تقليدياً في حصيلته، ونابغة في أسلوبه ووسيلته، وفريدا في درجة اتصاله بالمعنى الإسلامي المتكامل، وشجاعا في تبني رأيه.
كان الشيخ عبد الحميد كشك غصة في حلوق المستبدين، كان يغالب نواياهم المستبطنة وتصرفاتهم المستهجنة بسلاح الدين المتين وخطاب الشرع الثمين، نفض الغبار عن دين العلماء الممالئين، وأحيا في النفوس شرعة الحرية ودستور الموقنين.
كان يستخدم في خطبه النارية كلمات القرآن التي تعيد الأشياء إلى نصابها: "لمن الملك اليوم؟"، وكأنه يعرّض بالحكام الذين تبلغ بهم شهوة السلطة إلى الظن بغلبة أمرهم واستقرار حكمهم واستسلام الناس لهم، وعلى مسامع جماهيره الغفيرة ممن يحضر في مسجده أو يسمع له من خلال الشرائط التي تنتشر في أصقاع الدنيا كان يردد: "لا ظلم اليوم"، وكأن الظلم برأيه قاصمة العباد ومفسدة البلاد وسبيل الطغاة وصنيعة المستبدين.
كم هي حاجتنا إلى كشك جديد، يعيد إلى الدين هيبته في هذا الزمن المتراخي؟
الرابط : http://alasr.ws/articles/view/14580
تعليقات
إرسال تعليق