10-11-1434 12:12
عمر علي البدوي (صحيفة البندر):
" أحد زعامات النخب الوطنية بالحجاز ، ورائد العمل المؤسسي المدني بالحجاز والدولة السعودية ، وأحد بنّائها الأوائل المخلصين ، وهو الأب الروحي للنهضة الأدبية والثقافية في الحجاز ، أول ناشر في الجزيرة العربية ، وصاحب سؤال النهضة في الجزيرة العربية ، إنه رجل الدولة القوي ، صاحب المسيرة الزاخرة في تاريخ العمل الوطني في المملكة ؛ سياسياً وإدارياً وأدبياً واقتصادياً ومؤسساتياً وتنموياً ، ووزير المالية والاقتصاد الوطني الأسبق ، يوم كانت الجهاز المختص بجميع الشئون الداخلية ، وهي الوزارة التي أقام فيها مبادئ الليبرالية الاقتصادية تأثراً بالفكر الليبرالي المصري ، شغل أيضاً منصب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي " ( 1 ) .
من يصدق أن صاحب هذه السيرة الغنية ، واحد من أبناء محافظة القنفذة ، وبقي مجهولاً بالنسبة لنا طيلة مئة عام ويزيد ؟!
إنه : " محمد سرور الصبّان رائد الأدباء والمثقفين في أم القرى ( مكة المكرمة) منذ عهد الأشراف الهاشميين ، فقد ولد بالقنفذة سنة 1316هـ ثم انتقلت أسرته إلى جدة عام 1320هـ وتلقى في كتاتيبها الدروس العربية والشرعية وعندما جاءت الحرب العثمانية - الإيطالية انتقل مع أسرته إلى مكة وهناك دخل مدرسة الخياط القديمة ثم اشتغل مع والده في التجارة ، وقد عين مبكراً كاتب يومية بإدارة بلدية مكة في عام 1336هـ ثم رقي إلى وظيفة محاسب فرئيس كتاب وعندما آلت الأمور في هذا البلد إلى الملك عبد العزيز آل سعود عينه رئيس كتاب بلدية مكة المكرمة في عام 1343هـ ثم سكرتيراً للمجلس الأهلي وترقى في الوظائف الحكومية حتى عين وزيراً للمالية بعد وفاة الملك عبد العزيز، وفي عهد الملك فيصل بن عبد العزيز عينه أميناً عاماً لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة سنة 1382هـ / 1962م " ( 2 ) .
ولكن الاستغراب يزول إذا أدركنا ، أن حجم الوعي الذي يتمتع به أهل منطقة ما ودرجة ثقافتهم وحماسهم لتاريخهم تتدخل في مستوى تقديرهم واحتفاظهم بسير نوابغهم ورموزهم .
والصبّان له فضل عظيم على الحركة الثقافية في الحجاز ، وعلى المملكة برمتها ، ومع ذلك يعاني تاريخه من التجاهل والتغييب إلا قليلاً من نتف المقالات وشتات الشفاهيات التي تحفظ له بعض دوره وأثره ، في بلد قليلاً ما يحتفي بصانعي الأمجاد والأفذاذ الروّاد .
كيف غادر الصبّان بلده الأم ( محافظة القنفذة ) ؟
" من القنفذة التي تعبق بتاريخ طويل وواقع عنيد ، في ذلك الوقت بدأت الصفحة الأولى في حياة الصبان حيث ولد فيها كما تقول أدق الروايات في العام 1316 هـ .
وكانت القنفذة التي لم يظهر لها اسم في الكتابات التاريخية إلا مع بداية القرن التاسع الهجري بعد انقراض دولة بني حرام في وادي حلي ، كانت في ذلك الوقت منطلقاً لحملات الأتراك على عسير كما كانت سابقاً منطلقاً لحملات محمد علي باشا الحربية على عسير كما أنها كانت ميدانا لتطاحن القوى المتصارعة من العثمانيين والإيطاليين ولا تزال هناك شواهد من سفن الأتراك غارقة في مياه البحر الأحمر جنوبي القنفذة من جراء قصف البوارج الإيطالية ، كما أنها كانت قاعدة لحملات العثمانيين وحلفائهم الأشراف على عسير وقد سميت سابقا بـ( البندر ) من قبل العثمانيين والتي تعني ( السوق ) باللغة التركية.
في هذه الاجواء الساخنة والمتوترة ولد الرائد الصبّان ولأن والده كان يكره كرجل مال وأعمال يكره الحياة والعمل في هذه الأجواء ، انتزع نفسه وولده محمد في عمر الـ 4 سنوات منها وذلك في حدود عام 1320 هـ واتجه شمالاً باتجاه مدينة جدة التي كانت في ذلك الوقت جوهرة الحجاز وحاضرته الاقتصادية والسياسية .
حيث كل الوثائق وشهادات عائلته تؤكد ولادة محمد سرور الصبان في مدينة القنفذة وكما ذكر هو ذلك شخصياً في كتابه " أعلام الحجاز " .
خرج الرائد الصبان من القنفذة تاركاً كل أملاك أجداده وأراضيهم التي لا يزال بعضها قائماً حتى الآن ، ويعلق الدكتور محمد سالم الصبان ابن شقيقة رمزنا الكبير على ذلك من واقع أيامنا هذه قائلاً : لا زال لدى الأسرة بعض الممتلكات في القنفدة ، إلا أن كثيرا من الذكريات اندثرت لكون الأسرة قد انتقلت بكاملها إلى مكة وجدة منذ أكثر من مائة عام " ( 3 ) .
" يعتبر الصبّان من رواد وواضعي النوى الأولى لمؤسسات المجتمع المدني بالحجاز ، والتي تحققت فاعليتها ، ودورها الرمزي ، في استقلالها عن المؤسسة السياسية ، كمظهر مدني حديث سبق به الحجاز غيره في الجزيرة العربية مثل :
جمعية الإسعاف الخيري : تأسست عام 1934م ، والتي تعد نواة المؤسسات الثقافية والأدبية في المملكة ، فضلاً عن دورها الصحي والاجتماعي، وجمعية قرش فلسطين : تأسست عام 1935م ، ولجنة الدفاع عن فلسطين: تأسست عام 1937م .
والصبان شخصية عرفت بالمناداة بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام ، وقد كلفته آراؤه الصريحة ، ومطالبه بالإصلاح ، دخول المعتقل ، والحبس لمدة اثنين وعشرين شهراً ، قبل أن يعفى عنه .
يعتبر الصبّان من رواد العمل الاقتصادي والتنموي في المملكة ، بوصفه مؤسساً لعدد من الشركات الاقتصادية الكبرى ، ذات الوظائف التنموية المرتبطة بتحديث المجتمع والدولة ، تابعاً في ذلك عمل الاقتصادي المصري الكبير طلعت حرب ؛ مثل : شركة الفلاح للسيارات ، والشركة العربية للتوفير والاقتصاد ، والشركة العربية للصادرات ، والشركة العربية للطبع والنشر ( عام 1935 م ) والتي تولت امتياز جريدة صوت الحجاز من الشيخ محمد صالح نصيف ، وشركة ملح وكهرباء جازان ، وشركة الزهراء للعمارة ، وشركة مصحف مكة " ويكبيديا .
سيرة حافلة يسجلها هذا الرمز الوطني الفاخر ، ومزيد من الثقة في رحم القنفذة الولود بالنوابغ والمميزين ، ويتجدد السؤال الخانق : ما العائد الذي تظفر به هذه الغادة الحسناء التي تشبه الأم الرؤوم التي يفارقها أبناؤها في لحظة هي أحوج ما تكون إلى برهم ورعايتهم ، إذ تملك القنفذة سجلاً زاخراً بالكفاءات التي أنتجتها وذهبت أبعد ما يمكن في خدمة هذا الوطن الكبير ، وانطفأ حضورهم من واقع المحافظة أو ذكرهم من تاريخها .
ينتظر الفاعلين في ثقافة القنفذة وحراكها الفكري والمعرفي والإعلامي جهد كبير لملمة هذا الثراء الشتيت والكنز المفقود ، علينا أن نعيد هذه المدينة الحالمة إلى سابق عهدها من الفاعلية الاجتماعية التي تستطيع أن تنجب رموزاً بهذا القدر من الكفاءة والاقتدار ، علينا أن نشتغل بجد وإصرار على إنعاش قدرات هذه المحافظة على تخريج طاقات وكفاءات منتجة مع الحرص على استبقاء أثرهم فيها وإعادة تدوير نفعهم بما يحقق التقدم للقنفذة .
ما كان لهذا الرجل أن يكون بهذا القدر من الوعي والفاعلية لولا الأثر الذي تركته فيه عائلته القادمة من القنفذة محملة ببذورها النشطة وأفقها الواسع وحجم حراكها ودورها السياسي الذي أنضج إمكانات أبنائها وأشعل مواهبهم وألهب طاقاتهم ، وهذا ما يفسر تأثير والده عليه سيما وهو رجل أعمال قدير أيام معيشته في المحافظة .
كانت القنفذة ذات زخم سياسي وثقافي واجتماعي ولود ، يؤهلها لذلك موقعها الرصين ودورها التاريخي مع تعاقب الدول والأزمان ، ربما انخفض ذلك في العهد الجديد ، ولكن المسؤولية تتضاعف على أبنائها لاستعادة دورها وإحياء مكانتها وإرواء عطشها إلى مكانها اللائق بها كما يشهد التاريخ .
ماذا بقي من الصبّان ؟
أبقى لنا الصبّان سيرة حافلة بخدمة الوطن وترقية المجتمع وإرادة الخير له ، ترك لنا أثراً عظيماً في حياة الناس وثقافتهم ووعيهم ، خلّد ذكره عطراً عبر المبادرات التي قام بها في زمن الصعوبات المتكاثفة .
أبقى لنا الصبّان سؤالاً يضاعف القلق على حال محافظة القنفذة وهي تنشد تلك الأيام الخوالي التي كانت فيها مسرحاً فاعلاً في جغرافية الجزيرة العربية ، كل مرة يطل علينا التاريخ بقصة من أحشائه الغنية تحكي لنا بطولة من بطولات هذه المحافظة وأبنائها وكأنه يستدعينا إلى معاودة الركض ويغازلنا لاستعادة دورنا ومكانة محافظتنا الثمين .
" نشط الصبّان في العمل الثقافي مشجعًا على نشر وإنشاء المكتبات ورعاية الأدباء والمبدعين لاسيما الناشئين منهم ، وفي الإنتاج الشعري : له كتاب يضم نماذج من شعره ونثره بعنوان : «أدب الحجاز أو صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازية » - مطبعة مصر - القاهرة - 1378هـ/1958م ، وله قصائد كان ينشرها في صحف عصره تحت توقيع أبي فراس .
ومن الأعمال الأخرى: له كتاب بعنوان: « المعرض » ويضم مجموعة من الآراء في اللغة والأدب الحجازي .
شعره قليل ، كتب القصيدة العمودية وجدد في موضوعاته ، فراوح بين الشعر الوجداني والتعليمي ، وهو عادة يقسم قصائده إلى مقطعات تبرز المعنى وتحافظ على وحدتي القافية والموضوع ، لغته سلسة ، ومعانيه واضحة وصوره المجازية قليلة .
وفي واحدة من قصائده التي كانت بعنوان " إلى أبناء الغد " يقول :
أيـهـا الأبنـاءُ سمْعًا إننــــــــــــــي
سـوف أتلـو لكـمُ ذكرى السنـيـــــــــــنْ
كـان لـي مـالٌ وجــــــــــــــــاهٌ وندًى
وسمـاحٌ فـوق وَصْفِ الـواصـفـيــــــــــــن
أجـمعُ الـمـالَ لكــــــــــــــــي أنفِقَهُ
فـي مـواسـاةِ العبـادِ الـبـائسـيـــــــن
فكأنـي حـاتـمٌ فـي قـــــــــــــــــومِهِ
أصرف الأمـوال فـي وَجْهٍ قـمـيـــــــــــن
يلهَجُ النـــــــــــــــــاس بشكري دائمًا
ويعـيشـون بفِعـلـي آمـنـيــــــــــــــن
غـيرَ أن الـدهـرَ عـادانـي ولـــــــــــم
أدْرِ مـاذا يبتغـي مــــــــــــنِّي الخَؤون
ورمـانـي بصروفٍ قــــــــــــــــــــوَّضتْ
وأمـادَتْ ذلك الركْنَ الركـيــــــــــــــن
أخذتْ مـالـي، وهدَّتْ قـوَّتــــــــــــــــي
وحنَتْ ظهـري تبـاريحُ السنـيـــــــــــــن
ثـم لـمـا عـلـم القـومُ بـمــــــــــــا
كـان مـن أمـري تـولَّوا مُعـرضـيـــــــــن
وانـبرَى الـبعضُ فأضحى قــــــــــــائلاً:
إنمـا هـذا جزاءُ الـمسـرفـيــــــــــــن
لا يُبـالـون إذا مـا أنفقـــــــــــــوا
أجُزافًا أم لـمدْحِ الـمـادحـيــــــــــــن
أم تـراث ورِثــــــــــــــــــــوه فجأةً
أم كـنـوز، وَيْحَ مـن لا يستبـيــــــــــن
لـيس هـمـي فـي الـذي قـالـوا، فـمـــــا
أبعـدَ الشكَّ عـلى أهل الـيـقـيــــــــــن
إنمـا قـد سـاءنـي أنهـــــــــــــــــمُ
أسقطـونـي مـن عِدادِ العـامـلـيـــــــــن
ورمَونـي بظنـونٍ تــــــــــــــــــــركتْ
بفؤادي غصَّةَ الـحـزنِ الكـمـيــــــــــــن
كلُّ ذا الـيـومَ لأنـي مُعســـــــــــــــرٌ
بعـد أن كـنـتُ زعـيـمَ الـمـوسـريـــــــن " ( 4 ) .
لكأنه يخاطب أبناء جلدته من شباب محافظة القنفذة ، مسقط رأسه ، فيا ليت قومي يعلمون !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) سيرة الصبان على الموسوعة الحرة " ويكبيديا " :
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%...A8%D8%A7%D9%86
( 2 ) مقال " رائد نسيناه : محمد سرور الصبان " ، فاروق صالح باسلامة ، جريدة الرياض :
http://www.alriyadh.com/2013/08/17/article860254.html
( 3 ) مقال " محمد سرور الصبان .. رائد التنوير ورمز الثقافة " ، هاشم الجحدلي ، جريدة عكاظ :
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20...0426497933.htm
( 4 ) سيرة الشاعر محمد الصبان ، معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين :
http://www.almoajam.org/poet_details.php?id=5843
" أحد زعامات النخب الوطنية بالحجاز ، ورائد العمل المؤسسي المدني بالحجاز والدولة السعودية ، وأحد بنّائها الأوائل المخلصين ، وهو الأب الروحي للنهضة الأدبية والثقافية في الحجاز ، أول ناشر في الجزيرة العربية ، وصاحب سؤال النهضة في الجزيرة العربية ، إنه رجل الدولة القوي ، صاحب المسيرة الزاخرة في تاريخ العمل الوطني في المملكة ؛ سياسياً وإدارياً وأدبياً واقتصادياً ومؤسساتياً وتنموياً ، ووزير المالية والاقتصاد الوطني الأسبق ، يوم كانت الجهاز المختص بجميع الشئون الداخلية ، وهي الوزارة التي أقام فيها مبادئ الليبرالية الاقتصادية تأثراً بالفكر الليبرالي المصري ، شغل أيضاً منصب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي " ( 1 ) .
من يصدق أن صاحب هذه السيرة الغنية ، واحد من أبناء محافظة القنفذة ، وبقي مجهولاً بالنسبة لنا طيلة مئة عام ويزيد ؟!
إنه : " محمد سرور الصبّان رائد الأدباء والمثقفين في أم القرى ( مكة المكرمة) منذ عهد الأشراف الهاشميين ، فقد ولد بالقنفذة سنة 1316هـ ثم انتقلت أسرته إلى جدة عام 1320هـ وتلقى في كتاتيبها الدروس العربية والشرعية وعندما جاءت الحرب العثمانية - الإيطالية انتقل مع أسرته إلى مكة وهناك دخل مدرسة الخياط القديمة ثم اشتغل مع والده في التجارة ، وقد عين مبكراً كاتب يومية بإدارة بلدية مكة في عام 1336هـ ثم رقي إلى وظيفة محاسب فرئيس كتاب وعندما آلت الأمور في هذا البلد إلى الملك عبد العزيز آل سعود عينه رئيس كتاب بلدية مكة المكرمة في عام 1343هـ ثم سكرتيراً للمجلس الأهلي وترقى في الوظائف الحكومية حتى عين وزيراً للمالية بعد وفاة الملك عبد العزيز، وفي عهد الملك فيصل بن عبد العزيز عينه أميناً عاماً لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة سنة 1382هـ / 1962م " ( 2 ) .
ولكن الاستغراب يزول إذا أدركنا ، أن حجم الوعي الذي يتمتع به أهل منطقة ما ودرجة ثقافتهم وحماسهم لتاريخهم تتدخل في مستوى تقديرهم واحتفاظهم بسير نوابغهم ورموزهم .
والصبّان له فضل عظيم على الحركة الثقافية في الحجاز ، وعلى المملكة برمتها ، ومع ذلك يعاني تاريخه من التجاهل والتغييب إلا قليلاً من نتف المقالات وشتات الشفاهيات التي تحفظ له بعض دوره وأثره ، في بلد قليلاً ما يحتفي بصانعي الأمجاد والأفذاذ الروّاد .
كيف غادر الصبّان بلده الأم ( محافظة القنفذة ) ؟
" من القنفذة التي تعبق بتاريخ طويل وواقع عنيد ، في ذلك الوقت بدأت الصفحة الأولى في حياة الصبان حيث ولد فيها كما تقول أدق الروايات في العام 1316 هـ .
وكانت القنفذة التي لم يظهر لها اسم في الكتابات التاريخية إلا مع بداية القرن التاسع الهجري بعد انقراض دولة بني حرام في وادي حلي ، كانت في ذلك الوقت منطلقاً لحملات الأتراك على عسير كما كانت سابقاً منطلقاً لحملات محمد علي باشا الحربية على عسير كما أنها كانت ميدانا لتطاحن القوى المتصارعة من العثمانيين والإيطاليين ولا تزال هناك شواهد من سفن الأتراك غارقة في مياه البحر الأحمر جنوبي القنفذة من جراء قصف البوارج الإيطالية ، كما أنها كانت قاعدة لحملات العثمانيين وحلفائهم الأشراف على عسير وقد سميت سابقا بـ( البندر ) من قبل العثمانيين والتي تعني ( السوق ) باللغة التركية.
في هذه الاجواء الساخنة والمتوترة ولد الرائد الصبّان ولأن والده كان يكره كرجل مال وأعمال يكره الحياة والعمل في هذه الأجواء ، انتزع نفسه وولده محمد في عمر الـ 4 سنوات منها وذلك في حدود عام 1320 هـ واتجه شمالاً باتجاه مدينة جدة التي كانت في ذلك الوقت جوهرة الحجاز وحاضرته الاقتصادية والسياسية .
حيث كل الوثائق وشهادات عائلته تؤكد ولادة محمد سرور الصبان في مدينة القنفذة وكما ذكر هو ذلك شخصياً في كتابه " أعلام الحجاز " .
خرج الرائد الصبان من القنفذة تاركاً كل أملاك أجداده وأراضيهم التي لا يزال بعضها قائماً حتى الآن ، ويعلق الدكتور محمد سالم الصبان ابن شقيقة رمزنا الكبير على ذلك من واقع أيامنا هذه قائلاً : لا زال لدى الأسرة بعض الممتلكات في القنفدة ، إلا أن كثيرا من الذكريات اندثرت لكون الأسرة قد انتقلت بكاملها إلى مكة وجدة منذ أكثر من مائة عام " ( 3 ) .
" يعتبر الصبّان من رواد وواضعي النوى الأولى لمؤسسات المجتمع المدني بالحجاز ، والتي تحققت فاعليتها ، ودورها الرمزي ، في استقلالها عن المؤسسة السياسية ، كمظهر مدني حديث سبق به الحجاز غيره في الجزيرة العربية مثل :
جمعية الإسعاف الخيري : تأسست عام 1934م ، والتي تعد نواة المؤسسات الثقافية والأدبية في المملكة ، فضلاً عن دورها الصحي والاجتماعي، وجمعية قرش فلسطين : تأسست عام 1935م ، ولجنة الدفاع عن فلسطين: تأسست عام 1937م .
والصبان شخصية عرفت بالمناداة بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام ، وقد كلفته آراؤه الصريحة ، ومطالبه بالإصلاح ، دخول المعتقل ، والحبس لمدة اثنين وعشرين شهراً ، قبل أن يعفى عنه .
يعتبر الصبّان من رواد العمل الاقتصادي والتنموي في المملكة ، بوصفه مؤسساً لعدد من الشركات الاقتصادية الكبرى ، ذات الوظائف التنموية المرتبطة بتحديث المجتمع والدولة ، تابعاً في ذلك عمل الاقتصادي المصري الكبير طلعت حرب ؛ مثل : شركة الفلاح للسيارات ، والشركة العربية للتوفير والاقتصاد ، والشركة العربية للصادرات ، والشركة العربية للطبع والنشر ( عام 1935 م ) والتي تولت امتياز جريدة صوت الحجاز من الشيخ محمد صالح نصيف ، وشركة ملح وكهرباء جازان ، وشركة الزهراء للعمارة ، وشركة مصحف مكة " ويكبيديا .
سيرة حافلة يسجلها هذا الرمز الوطني الفاخر ، ومزيد من الثقة في رحم القنفذة الولود بالنوابغ والمميزين ، ويتجدد السؤال الخانق : ما العائد الذي تظفر به هذه الغادة الحسناء التي تشبه الأم الرؤوم التي يفارقها أبناؤها في لحظة هي أحوج ما تكون إلى برهم ورعايتهم ، إذ تملك القنفذة سجلاً زاخراً بالكفاءات التي أنتجتها وذهبت أبعد ما يمكن في خدمة هذا الوطن الكبير ، وانطفأ حضورهم من واقع المحافظة أو ذكرهم من تاريخها .
ينتظر الفاعلين في ثقافة القنفذة وحراكها الفكري والمعرفي والإعلامي جهد كبير لملمة هذا الثراء الشتيت والكنز المفقود ، علينا أن نعيد هذه المدينة الحالمة إلى سابق عهدها من الفاعلية الاجتماعية التي تستطيع أن تنجب رموزاً بهذا القدر من الكفاءة والاقتدار ، علينا أن نشتغل بجد وإصرار على إنعاش قدرات هذه المحافظة على تخريج طاقات وكفاءات منتجة مع الحرص على استبقاء أثرهم فيها وإعادة تدوير نفعهم بما يحقق التقدم للقنفذة .
ما كان لهذا الرجل أن يكون بهذا القدر من الوعي والفاعلية لولا الأثر الذي تركته فيه عائلته القادمة من القنفذة محملة ببذورها النشطة وأفقها الواسع وحجم حراكها ودورها السياسي الذي أنضج إمكانات أبنائها وأشعل مواهبهم وألهب طاقاتهم ، وهذا ما يفسر تأثير والده عليه سيما وهو رجل أعمال قدير أيام معيشته في المحافظة .
كانت القنفذة ذات زخم سياسي وثقافي واجتماعي ولود ، يؤهلها لذلك موقعها الرصين ودورها التاريخي مع تعاقب الدول والأزمان ، ربما انخفض ذلك في العهد الجديد ، ولكن المسؤولية تتضاعف على أبنائها لاستعادة دورها وإحياء مكانتها وإرواء عطشها إلى مكانها اللائق بها كما يشهد التاريخ .
ماذا بقي من الصبّان ؟
أبقى لنا الصبّان سيرة حافلة بخدمة الوطن وترقية المجتمع وإرادة الخير له ، ترك لنا أثراً عظيماً في حياة الناس وثقافتهم ووعيهم ، خلّد ذكره عطراً عبر المبادرات التي قام بها في زمن الصعوبات المتكاثفة .
أبقى لنا الصبّان سؤالاً يضاعف القلق على حال محافظة القنفذة وهي تنشد تلك الأيام الخوالي التي كانت فيها مسرحاً فاعلاً في جغرافية الجزيرة العربية ، كل مرة يطل علينا التاريخ بقصة من أحشائه الغنية تحكي لنا بطولة من بطولات هذه المحافظة وأبنائها وكأنه يستدعينا إلى معاودة الركض ويغازلنا لاستعادة دورنا ومكانة محافظتنا الثمين .
" نشط الصبّان في العمل الثقافي مشجعًا على نشر وإنشاء المكتبات ورعاية الأدباء والمبدعين لاسيما الناشئين منهم ، وفي الإنتاج الشعري : له كتاب يضم نماذج من شعره ونثره بعنوان : «أدب الحجاز أو صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازية » - مطبعة مصر - القاهرة - 1378هـ/1958م ، وله قصائد كان ينشرها في صحف عصره تحت توقيع أبي فراس .
ومن الأعمال الأخرى: له كتاب بعنوان: « المعرض » ويضم مجموعة من الآراء في اللغة والأدب الحجازي .
شعره قليل ، كتب القصيدة العمودية وجدد في موضوعاته ، فراوح بين الشعر الوجداني والتعليمي ، وهو عادة يقسم قصائده إلى مقطعات تبرز المعنى وتحافظ على وحدتي القافية والموضوع ، لغته سلسة ، ومعانيه واضحة وصوره المجازية قليلة .
وفي واحدة من قصائده التي كانت بعنوان " إلى أبناء الغد " يقول :
أيـهـا الأبنـاءُ سمْعًا إننــــــــــــــي
سـوف أتلـو لكـمُ ذكرى السنـيـــــــــــنْ
كـان لـي مـالٌ وجــــــــــــــــاهٌ وندًى
وسمـاحٌ فـوق وَصْفِ الـواصـفـيــــــــــــن
أجـمعُ الـمـالَ لكــــــــــــــــي أنفِقَهُ
فـي مـواسـاةِ العبـادِ الـبـائسـيـــــــن
فكأنـي حـاتـمٌ فـي قـــــــــــــــــومِهِ
أصرف الأمـوال فـي وَجْهٍ قـمـيـــــــــــن
يلهَجُ النـــــــــــــــــاس بشكري دائمًا
ويعـيشـون بفِعـلـي آمـنـيــــــــــــــن
غـيرَ أن الـدهـرَ عـادانـي ولـــــــــــم
أدْرِ مـاذا يبتغـي مــــــــــــنِّي الخَؤون
ورمـانـي بصروفٍ قــــــــــــــــــــوَّضتْ
وأمـادَتْ ذلك الركْنَ الركـيــــــــــــــن
أخذتْ مـالـي، وهدَّتْ قـوَّتــــــــــــــــي
وحنَتْ ظهـري تبـاريحُ السنـيـــــــــــــن
ثـم لـمـا عـلـم القـومُ بـمــــــــــــا
كـان مـن أمـري تـولَّوا مُعـرضـيـــــــــن
وانـبرَى الـبعضُ فأضحى قــــــــــــائلاً:
إنمـا هـذا جزاءُ الـمسـرفـيــــــــــــن
لا يُبـالـون إذا مـا أنفقـــــــــــــوا
أجُزافًا أم لـمدْحِ الـمـادحـيــــــــــــن
أم تـراث ورِثــــــــــــــــــــوه فجأةً
أم كـنـوز، وَيْحَ مـن لا يستبـيــــــــــن
لـيس هـمـي فـي الـذي قـالـوا، فـمـــــا
أبعـدَ الشكَّ عـلى أهل الـيـقـيــــــــــن
إنمـا قـد سـاءنـي أنهـــــــــــــــــمُ
أسقطـونـي مـن عِدادِ العـامـلـيـــــــــن
ورمَونـي بظنـونٍ تــــــــــــــــــــركتْ
بفؤادي غصَّةَ الـحـزنِ الكـمـيــــــــــــن
كلُّ ذا الـيـومَ لأنـي مُعســـــــــــــــرٌ
بعـد أن كـنـتُ زعـيـمَ الـمـوسـريـــــــن " ( 4 ) .
لكأنه يخاطب أبناء جلدته من شباب محافظة القنفذة ، مسقط رأسه ، فيا ليت قومي يعلمون !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) سيرة الصبان على الموسوعة الحرة " ويكبيديا " :
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%...A8%D8%A7%D9%86
( 2 ) مقال " رائد نسيناه : محمد سرور الصبان " ، فاروق صالح باسلامة ، جريدة الرياض :
http://www.alriyadh.com/2013/08/17/article860254.html
( 3 ) مقال " محمد سرور الصبان .. رائد التنوير ورمز الثقافة " ، هاشم الجحدلي ، جريدة عكاظ :
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20...0426497933.htm
( 4 ) سيرة الشاعر محمد الصبان ، معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين :
http://www.almoajam.org/poet_details.php?id=5843
مقال سطر سيرة رجل من ذهب
ردحذفاشكرك على الطرح المميز الذي أخذنا الى تاريخ محافظة القنفذة وما تحويه من كنوز في جميع المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
لا أتفق معك في عدم معرفة محمدسرور الصبان من مثقفي محافظة القنفدة بصفة خاصة ولا من جيران أهله عندما كانوا يسكنون القنفدة .بل إن اللجنة الثقافية بالقنفدة استضافة الأستاذ حسين بافقيه في محاضرة له عن الشيخ الأديب محمدسرور الصبان .
ردحذف