بوفاة الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي أثناء محاكمته، تطوى قصة واحدة من فصول حكم الإسلاميين لعاصمة عربية محورية، حملت هذه التجربة - على قصرها - الكثير من المؤشرات التي عجّلت بزوال حكم الإسلاميين وانكشاف سوءته.
لم تكن الوفاة إلا تشييعًا رمزيا لتجربة صدر الحكم بفشلها في مليونيات 30 يونيو التي كانت استفتاء شعبيا صارخا لرفض حكم جماعة الإخوان المسلمين وبوار الشعارات الطوباوية التي أتخمت خطاباتهم.
طويت التجربة التي بدأت لحظة سعي الإخوان للانقضاض على ثورة الشعب واحتكار إرادته في أهداف الجماعة الضيقة والمحدودة الأفق، وتصوير أن الثورة قامت نتيجة تضحياتهم والمرارات التي نالت أفرادها، ونصرة لخطابهم المؤثث بالمظلومية والانتصار للهوية، رغم التحاقهم المتأخر بجموعها ورفضهم لها أول الأمر ثم امتطائها وركوب موجتها.
تكشفت أولى النوايا الالتفافية السافرة مع «استفتاء الـ 19 من مارس» ودأب الجماعة على الانفراد بصناعة مستقبل الحكم في مصر على مقاييسهم واستجابة لأطماعهم وتمهيدًا لسيطرتهم.
ولما استقر الحكم في يد الجماعة عبر ظل مرسي ومن خلفه الرئيس المفترض لولا قيود المعايير المدنية الصارمة (خيرت الشاطر)، غمرتها نشوة التمكين وأغرقتها عن إبصار الواقع، وأجّلت استحقاقات الشعب وثورته، أقصت وكابرت وانفردت وساومت بحسب ما تقتضيه مصلحة الحزب والجماعة.
إلى أي حدّ ستترك هذه التجربة غير السويّة أثرًا في واقع الإسلام السياسي، من جهة الأحزاب والجماعات التي تتبناه مرجعية وتنطلق من خلفية مؤسسة بأدبياته ومفاهيمه، ومن جهة المجتمع العربي والمسلم الذي تتوجه إليه الأحزاب بخطابها وتتقاطع معه في جغرافيا الوجود والانتشار.
خلافات وانشقاقات
أولى نتائج هذه الخسارات العميقة بدأت في جسم الأحزاب الإسلامية نفسها، بموجات من الخلافات الداخلية الجسيمة التي أخلت بتماسكها وأضرّت ببنيتها، وسلسلة من الانشقاقات بدأت بإخوان مصر، ولم تنته عند إعلان قيادات من حزب أردوجان تأسيس حزب انفصالي، بما يعبر عن تهتك هذه الأحزاب والجماعات ويلغي وجاهة ما كانت تتبناه من رؤى وتؤمن به من قيم ديمقراطية ومدنية كانت في الواقع تتسلل منها إلى مواقع القرار والحكم والتأثير.
تصنيفات بإرهابية الجماعة
وجاءت القرارات التي اتخذتها العواصم العربية والدولية لتصنيف بعض الجماعات والكيانات ذات المرجعية الإسلامية كمنظمات إرهابية، مستندة في ذلك إلى جملة من المبررات، لتسهم في تشظي هذه الجماعات وزيادة أكلاف المرحلة المريرة التي تتجرعها اليوم.
إيذاء عواصم الاستقرار
وزيادة في انحراف بوصلتها، أخذ الكثير من معتنقي آيديولوجيا الجماعات الدينية في إيذاء عواصم الاستقرار بالمنطقة العربية، وشن هجمة شعواء ضد الرياض وأبوظبي تلبية لحاجة الممول الرئيسي لهذه الجماعات (قطر)، التي نذرت أموالها وأحوالها لإذكاء الإسلاميين وإحياء مشروعهم.
والواقع أن هذه الحملة المكثفة كانت أكثر ما كشف عن سوءة الإسلاميين في انزلاقهم وفجورهم بالخصومة وانسلاخهم من الشكلانية الأخلاقية التي طالما روجوها بضاعة محتكرة لهم، واستمرائهم الكذب والتزييف ولي الحقائق في سبيل أهداف سياسية بحتة.
أكثر ما نتج عن انكسارات الإسلاميين بعد موجة الربيع العربي، هو تعثر مشروع تطوير الإسلاميين من داخلهم، عبر نمذجة الحالة التركية وتسويقها كمنتج يغري الغرب ويؤسس لإمبراطورية مشتهاة.
النموذج الذي دعا إلى فصل «الدعوة» الذي يمكّن من الحشد لكنه لا يسعف الواقع، ويعجز عن توفير شروط النجاح العملية، والدعوة إلى تخفيف الأدلجة وتخمة الشعارات العنترية التي تسطح الوعي وتبني رثاثة سياسية لا تطاق، والخروج الكامل من منطق الأزمة الذي تثخنه أوهام المؤامرات وهواجس الهوية المرضية ومتلازمة الأصالة والمعاصرة.
والحثّ على الخروج من ذلك إلى خلق برنامج عملي، يتحرى أدوات النجاح في قطاعات عمل الدولة المختلفة بما يتجاوز عسف الخيارات الشرعية القديمة.
فضلاً عن الانصراف الكامل عن العنف وتعطيله من قائمة الخيارات المتاحة، أمام انخراط كامل في العملية السياسية بشروطها المدنية الصرفة.
لكن إكراهات الواقع وتحديات الممانعة الشعبية لتمدد الإسلاميين وانفلاش مشروعهم، كشف عن المخبوء في نوايا هذه الجماعات وعرّى حقيقتهم بما لا يشجع على منحهم فرصة التمكين من جديد.
خسارات مستمرة
الواقع أن القلق الذي صنعه حكم الإسلاميين في مصر ودفع جموعًا مليونية من الشعب إلى الخروج مجددًا إلى الميادين ورفض استمرار الإخوان في سدة الحكم، قوّض أحلام الإسلاميين بلحظة التمكين الأبدية، تراجع إسلاميو تونس تحسبًا لردة فعل مماثلة وتجرعوا مرارة كأس مشاركة الحكم مع منافسيهم، الأمر الذي قلَّص من حضورهم ودورهم بما لم يدع لهم أي تأثير أو نفوذ حتى اليوم، ساعد في ذلك حجم وعي التونسيين السياسي والثقافي بما يعقد من قدرة الإسلاميين على اختراقهم بخطاب عاطفي يخلو من رصانة منهجية أو عدة عملية وازنة.
لكن التأثير الطويل الأمد لفشل الإسلاميين في إطالة عمر لحظتهم السارّة، أخذ يتجلى بعد هدوء عواصف الثورات العربية وخمود فوران الشارع بما يهيئ لنظرة فاحصة وسكينة بصيرة بالواقع واللاعبين فيه.
حتى أن ما يمكن تسميته بالموجة الثانية من هذه الانتفاضات، والتي ضربت في السودان والجزائر، كانت في محصلتها رفضًا لاستمرار إسلاميي السودان في حكم البلاد التي أورثوها التخلف والتراجع والعجز.
وكان آخر ما تلقته جماعات الإسلام السياسي من رفض الشارع العربي والمسلم لها، هو خسارة حزب العدالة والتنمية التركي لبلدية إسطنبول وهزيمة مرشح الإخوان المسلمين وتحديدا حزب التجمع الوطني للإصلاح سيدي محمد ولد بوبكر في انتخابات الرئاسة الموريتانية.
وما يشكله هذان الحدثان من صورة جلية ومعبرة عن ضمور قدرة الإسلاميين على المنافسة نتيجة جمودهم عند لحظة عنفوان التمكين وهوجة الانتصار الشكلي، وتعبيرًا عن تراجع تأثيرهم في نفوس المجتمعات التي حسبتها ماءً زلالاً، فألقمتها سراب الوعود وخيبة النتائج.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق