التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الجهد الواعي دليل فك الارتباط عن أعباء الأسلمة

فك ارتباط المجتمعات المسلمة عن تأثير الجماعات الإسلاموية جهد صلب لمساءلة المنظومات الراكدة في الخلفيات الثقافية للشعوب.

الخميس 2019/07/04



في سياق ما تشهده حالة الإسلام السياسي من انحسار وهزائم متتابعة في مواقع مختلفة من الشرق الأوسط، اضطرت ثلة من أحزابه وجماعاته إلى مراجعة الذات، وبلورة أشكال من الانشقاقات الحادة في بناها التنظيمية وانشطارات قاسية في عدّتها الفكرية.
ففي أعقاب ثورات الربيع العربي استغرقت جماعات الإسلام السياسي في لحظة غير عادية من الانتصار والتمكين، ما حقق لها خلال المرحلة الرخوة لما بعد الثورات فرصة الحكم في عدد من البلدان.
لكن ذلك لم يستمر طويلا، إذ تحولت قبلة المجتمعات إلى غير الإسلاميين الذين خسروا ثقتها، تبعا لما نتج عن انفرادهم بالتأثير على مصائر الدول والشعوب عقب الربيع العربي من واقع متشظ وغياب للاستقرار وتأجيل للكثير من استحقاقات الثورات ومطالب الشعوب.
لم يسيطر الإسلاميون على المشهد لكونهم الأكثر تنظيما فقط، بل كان ذلك أيضا تتويجا لجهد طويل من العمل المتمهل في خلفيات المجتمع، إذ سيطروا على الكثير من المنابر العامة التي مكنتهم ولعقود من بث دعاياتهم والتسويق لأفكارهم والاستحواذ على وجدان المجتمع العربي بما يوافق هوى أيديولوجيتهم، الأمر الذي خلق وعيا مشوها، وعقلية اجتماعية مستلبة، ضاعفت من متاعب التحول نحو واقع مدني وعصري مكتمل العناصر والسمات.
الإسلاميون عبر أدواتهم الالتفافية والانتهازية، تمكنوا من الاستحواذ على مخرجات ونتائج ما بعد الربيع العربي، قبل أن يعود المجتمع ويستعيد ثقته بنفسه ويلفظ تلك الجماعات
الآن، وفي طريق فك ارتباط المجتمعات المسلمة عن تأثير الجماعات الإسلاموية التي انفردت لعقود بتشكيل وعيها، وبناء ترسانتها الفكرية في القواعد الشعبية، يتطلب الشرط الموضوعي لإعادة تأهيل الوعي العام، جهدا صلبا لمساءلة المنظومات الراكدة في الخلفيات الثقافية العمومية، وإحلال أجهزة مفاهيمية وفكرية مستعدة لواجبات المستقبل، ومتخففة من أعباء الأسلمة وركام الأيديولوجيا المغلقة.
كان الإسلاميون يفضلون شغل مواقع التعليم والتربية لما تحويه من قدرة على التأثير في وعي الأجيال والناشئة، وتأسيسها فكريا عبر منابع التعليم الأولى، لاسيما في الدول الناشئة حديثا، كانت القيادات الإسلامية النازحة من الحواضر العربية المتقدمة تستحوذ على مواقع القرار في وزارات التعليم والشؤون الدينية والمساجد والجامعات، وكانت تستقطب الكفاءات التعليمية من نفس المدرسة الفكرية التي ينتمون إليها، وقد حقق لهم ذلك تأثيرا عريضا وواسعا في الكثير من المجتمعات العربية المختلفة.
كان الإسلاميون يشغلون مواقع نافذة في لجان كتابة المناهج المدرسية، لاسيما في دول الخليج التي كانت تعتمد على الكفاءات الوافدة من سوريا ومصر والسودان، وكانت المناهج المصممة بتأثير الإسلاميين مشحونة بالشروط الأيديولوجية لبناء وعي مندرج في سياق الاستعداد والتحفز للوفاء بواجبات الحركات الإسلامية وأدوارها، وقد ظهر هذا العقل المصمم خصيصا في الكثير من الوقائع والأحداث التي كان يجنح فيها الوعي العام نحو نداء الجماعة الأممي دون أدنى اعتبار أو اشتغال على الواجبات الوطنية والمحلية.
وقد وصل هذا التأثير إلى برامج الابتعاث التي اعتمدت عليها الدول العربية الناشئة في بدايات تحديثها، وقد كان الإسلاميون عبر نفوذهم العريض يدفعون بالمنخرطين في قوائمهم، محاولين رفد هياكلهم التنظيمية بالكفاءات العلمية المتأسلمة والمصنوعة على عين “مجالسهم الشوروية ” وصفوف القيادة المتقدمة.
وعندما تضيق فرص التمكين في مواقع التعليم، كان الإسلاميون ينشطون في بناء “المنهج اللاصفي” وهو سلة من مؤسسات التعبئة الاجتماعية التي تخترق القطاعات الأهلية، وتعيد إنتاجها في مطابخ النشاطات المختلفة والغارقة في أطر الجماعات الأيديولوجية بما يحشد المزيد من المدموغين بسرديتها الموتورة.
استمرت الجماعات والأحزاب ذات الخلفية الإسلامية في التمدد إلى كل الفعاليات الاجتماعية التي يسعها تحويلها إلى منصات للتعبئة والتحشيد العام، وتمدها بالمحتوى المشحون بالطاقة الانفعالية والأدوات المؤثثة بالأيديولوجيا.
ومع الانفتاح الفضائي، وتدشين مرحلة القنوات والمحطات التلفزيونية، اندفع الإسلاميون في فتح موائد الكلام المجاني، والاستثمار في هذا القطاع الحيوي لبث دعايتهم وتوسيع نطاق خطابهم، وقد تزاحم الفضاء بالمقولات الإسلاموية التي تعالج المواقف والأحداث بعدتها القاصرة عن الوفاء بالشروط العلمية والموضوعية، والمثخنة بحمولات السم التخويني والضغينة الحزبية.
لم يسيطر الإسلاميون على المشهد لكونهم الأكثر تنظيما فقط، بل كان ذلك أيضا تتويجا لجهد طويل من العمل المتمهل في خلفيات المجتمع
فيما تشكل منابر الجمعة ذروة ما قد تبلغه الحركات الإسلاموية من اشتباك الدين بالسياسة، وتكشف أداء توظيفيا سافرا لمنابر العبادة ومحاريب الطاعة وتحويلها إلى مسارح أيديولوجية تعبوية، تستلب عقل الفرد وتشوه وجدانه، وتحوله إلى كائن مذعن مستسلم لأهدافها الحزبية تحت سياط الدين وعبر استغلال آلياته.
محاولة الإسلاميين بناء سياق اجتماعي مستسلم لسرديتهم ومنسجم مع شروط تمكينهم، قديمة منذ صكّ أشهر منظريهم سيد قطب مفهوم العزلة الشعورية الذي ينظر باستعلاء إلى عموم الخارجين عن نطاق الجماعة.
كما يوفر لهم القدرة على الانفراد بثلة تستقل عن أي تأثير عمومي وتستجيب لواجبات الجماعة، نفوسها مملوءة بشعور التميز وبأنها فوق عالمها وفوق مجتمعها، أرسلها الله ليستنقذ هذا المجتمع من تلك الهوة التي نجت وحدها منها، بعضويتها في تلك الجماعة، لذا بدت مطالبة وفق هذا التوجيه القطبي، بألاّ تلجأ إلى الخيار الأسهل في اعتزال تلك المجتمعات، بألاّ يجاريها في شيء من قوانينها، أو أعرافها، لأنّه بعضويته في تلك الجماعة يبقى أطهر روحا، وأطيب قلبا، وأذكى عقلا.
ورغم أن انتفاضات الشارع العربي جاءت، حسب مطالبها، خروجا عن نص ما تؤمن به هذه الجماعات، وما صبغ سلوكها وشعاراتها من مظاهر ليبرالية حظيت بتأييد وإجماع شعبيين، كتعبير واضح عن تراجع الهيمنة الفكرية والأيديولوجية للإسلاميين وبزوغ خيال اجتماعي جديد، نمط حياة مختلف، يمكن أن ينمو ويهيمن ويفرض نفسه إذا هُيّئت له الظروف، لكن الإسلاميين عبر أدواتهم الالتفافية والانتهازية، تمكنوا من الاستحواذ على مخرجات ونتائج ما بعد الربيع العربي، قبل أن يعود المجتمع ويستعيد ثقته بنفسه ويلفظ تلك الجماعات إلى خارج دوائر القرار والتأثير، لكن الكثير من آثارها لا يزال ماثلا، ويتطلب الأمر جهدا واعيا لفك ارتباط هذه المجتمعات عن أعباء هذه “الأسلمة” وركامها.

الرابط :


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...