أمير منطقة مكة المكرمة فنان تشكيلي مميز وشاعر له تاريخ عريض في مواجهة ما سماه “المنهج الخفي” طالب خلاله بتنقية المناهج السعودية من الفكر المتطرف.
الثلاثاء 2019/05/14
مطلع هذا الشهر منح العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز الأمير الشاعر خالد الفيصل بن عبدالعزيز وشاح الملك عبدالعزيز في قصر السلام بجدة، مشيدا بما قدمه الأمير خالد من جهود وخدمات جليلة لوطنه. ولا يزال الأمير الشاعر واحدا من أهم رموز الواقع السعودي وإداريا فذا يحكم أهم مناطق المملكة، ويكتب الشعر، ويدير أكبر مؤسسة فكرية في العالم العربي، ويسافر بحقائب دبلوماسية نيابة عن الملك بوصفه مستشارا خاصا له وواحدا من رموز مواجهة التطرف ودعاة الاعتدال.
الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أمير منطقة مكة المكرمة ورئيس اللجنة المركزية للحج وهو الابن الثالث من بين أبناء الملك الراحل فيصل ملك المملكة العربية السعودية الثالث، عمل في رعاية الشباب بوزارة الشؤون الاجتماعية وإليه تعزى فكرة إقامة بطولة كأس الخليج لكرة القدم. عين أميرا لمنطقة عسير عام 1971، وفي 16 مايو 2007 عين أميرا على منطقة مكة المكرمة، وفي العام 2013 عين وزير التربية والتعليم حتى عام 2015، ثم تم تعيينه مستشارا للملك، وأميرا لمنطقة مكة المكرمة، للمرة الثانية، وهو عضو في هيئة البيعة السعودية عن والده الملك فيصل.
درس القرآن الكريم والسنتين الأولى والثانية الابتدائية في الأحساء، ثم التحق بالمدرسة النموذجية التي افتتحها والده في الطائف، وأكمل فيها دراسته الثانوية. حصل على دبلوم الثانوية الأميركية من مدارس برنستون، ثم التحق بجامعة أكسفورد البريطانية لدراسة العلوم السياسية والاقتصادية في عام 1962 وأنهى دراسته فيها بعد أربعة أعوام. وهو فنان تشكيلي مميز وشاعر، ويوقع قصائده باللقب “دايم السيف”.
نصير العربية
يملك الفيصل سيرة علمية وأدبية كبيرة، أهّلته لينال وشاح الملك المؤسس، ويكون ضمن نخبة المجتمع التي تساعد في صف أفكاره وتشكيل هويته. ولا تجد سعوديا أو خليجيا لا يحفظ شطرا من قصيدة ملقاة أو مغناة كتبها الأمير الشاعر وصدح بها واحد من رموز الفن السعودي. إذ يملك الأمير القدرة على استنطاق الوجدان المحلي ومراقصة المشاعر التي يشترك فيها أبناء هذا التراب الواحد، وقد شكلت نخبة قصائده ذاكرة مشتركة للمجتمع ودشنت حالة فنية وشعرية لها ملامح فريدة ومفردات جديدة وابتكرت مدرسة سعودية لا تشبه غيرها، وكثيرا ما سارت بعض أبياته الشعرية بين الأجيال واتخذت مثلا للتعبير المقتضب على المواقف المتعددة.
يعرف الفيصل ببلاغته وارتجاله وميله إلى قول السجع في كثير من خطاباته بتأثير من شاعريته التي يفضلها للتعبير عن الشكر وعند المناسبات الوطنية المهمة. وقد اعتاد في كل المناسبات والمهام الرسمية والمنصات التي يرتقي عليها أن يتحدث بالفصحى التي يعتني بها حتى في مجالسه الخاصة، فقد عرف عن ديوانه الخاص أنه يرفض ذكر كلمة إنكليزية فيه إلا اضطرارا.
ورغم أعباء ما يتولاه من مهام إدارية، فإنه يهتم بتفاصيل متصلة باللغة مثل الاحتفاء بيوم اللغة العربية، ويفسح لها في برنامج الإمارة مساحة واسعة، آخذا هذا الأمر على محمل الجد، وخلال لقائه مع وفد عالمي من 13 دولة أجنبية، ألقى عليهم السلام، وخاطبهم بالعربية على الرغم من تمكنه في اللغة الإنكليزية.
وقد تحدث مرة بكل حرقة عن كل شاب وشابة يقحم الإنكليزية على اللغة العربية بزعم أن ذلك يمنحه صفة أو شكل الـ”مثقف”. ولشدة ولعه باللغة العربية أنعش مجددا “سوق عكاظ” الذي يحتفظ بمكانة أثيرة في تاريخ العرب، وقد تجاوزت دوراته العشر، وأصبح معلما تاريخيا وواجهة حضارية مشرفة تنقل صورة الإنسان السعودي المبدع، وتحتفي بالشعر واللغة والتاريخ وتقدم جوائز سنوية في فنون اللغة المختلفة.
وكان عتِب على بعض الصحافيين ذات مرة لأنهم سموا على لسانه أحد المشاريع بغير اللغة العربية، مشددا على استخدام الكلمات العربية في وصف المشاريع وتسميتها، وهو ديدن اتبعه في كل مسيرته الإدارية الطويلة منذ تسلمه زمام إمارة منطقة عسير، بامتناعه تماما عن إطلاق اسمه على أي من المشاريع المدنية التي يفتتحها، مفضلا أن ينحت لها اسما يعبر عن تاريخ المكان وهويته وطابع أهله.
قضى الفيصل في عسير ما يزيد على ثلاثين عاما، حولها من منطقة مهملة وغير مذكورة إلى واحدة من عواصم السياحة العربية، كسر خلالها الكثير من التابوهات وقدم أنموذجا لمدينة حضارية تؤمن بالفن وتتخذه أسلوب حياة.
مواجهة "المنهج الخفي"
كان الفيصل عرضة لسهام المتشددين منذ وقت مبكر، دبجت ضده المقالات والخطب المنبرية والمحاضرات التي كانت تعلن أو تضمر الإشارة إليه وتشوه اسمه، وكان يتعرض لحملات منظمة من التحريض والتشويه والتأليب، وذلك قبل أن يحين زمن “الهاشتاغات” التي نالته هي الأخرى في استمرار للخصومة حتى آخر رمق في عمر التطرف.
حدث هذا في بواكير زمن التشدد، عندما كانت حشود الصحوة تعبئ أتباعها ضد كل من يعترض طريقها للسيطرة على المجتمع ومفاصله بقليل أو كثير.
كان الفيصل من موقعه كحاكم إداري لمنطقة عسير يقدم أنموذجا تقدميا في ذروة زمن الصحوة، ولهذا حمل مسرح “المفتاحة” على خشبته الكثير من أمسيات الشعر والفن والغناء، ووجدت الكثير من المواهب السعودية طريقها للنجومية انطلاقا من ذلك المكان وتحت رعاية الأمير الواعي ذي الذائقة الجميلة. حتى أن منظّر القاعدة الأشهر في السعودية فارس آل شويل كان قد وضع مخططا لتفجير حفل غنائي للفنان السعودي محمد عبده ضمن فعاليات “مهرجان أبها السياحي” في مسرح المفتاحة عام 2004.
ولأن الفيصل كان يدرك بأن التشدد هو مسألة وعي، أطلق من عسير واحدة من أكثر الصحف السعودية حداثة وشهرة عام 2000، وسميت “الوطن” لتعزيز هذا المفهوم الذي كرست الصحوة جهودها لبخسه وعزله نصرة لتوجهاتها الأممية.
وقد خاضت “الوطن” معارك شرسة لهز عروش التشدد، وخطت نهجها الإصلاحي على صفيح ساخن كانت تلهبه الأجواء المشحونة التي تنفخ فيها مجاميع الصحوة الموتورة.
التشدد مسألة وعي، حسبما يؤمن الفيصل الذي أطلق من عسير واحدة من أكثر الصحف السعودية حداثة وشهرة عام 2000، وسميت "الوطن" لتعزيز هذا المفهوم الذي كرست الصحوة جهودها لبخسه وعزله نصرة لتوجهاتها الأممية
انخفضت أسهم الصحوة، نتيجة حائط الصد الذي بنته الدولة في وجه كل المستثمرين في تدين السعوديين، لكنها معركة واحدة في حرب طويلة ضد التشدد، خاضها الأمير خالد في موقعه الجديد أميرا لمنطقة مكة المكرمة.
وقد بدأ مشواره فيها بإعادة تنظيم الفعاليات العشوائية للمجتمع الأهلي، ومراجعة نجوم ومحتوى الفعاليات الدينية كالمحاضرات العامة وحلقات التحفيظ والملتقيات الشبابية، لقطع الطريق على الحركيين بالنفاذ إلى هذه التجمعات والمناسبات وبث دعاياتهم وأجنداتهم الخبيثة.
وقد كانت جملة هذه القرارات الجريئة دافعا لحملة منظمة من الهجوم والتأليب والتشويه الذي تعرض له الفيصل، استخدمت خلالها حتى الأساليب غير الأخلاقية لكسب معركة الوجدان السعودي، لكن الأمير عقد العزم على مكابدة هذه التحديات ومواصلة مشواره العسير لتفكيك المنظومة المضمرة التي تغذي التشدد لدى المجتمع.
وللأمير خالد تاريخ عريض في مواجهة ما سماه “المنهج الخفي” في حديث متلفز له عام 2004 طالب خلاله بتنقية المناهج السعودية من الفقرات التي وجدت طريقها إليها لنقل الفكر المتطرف إلى السعودية.
عمل الفيصل وزيرا للتعليم مدة عام واحد، بعد صدور أمر ملكي من قبل الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز بتعيينه في هذا المنصب، ليزيد من فعالية هذه المؤسسة في توجه الدولة نحو الإصلاح وانعتاق المجتمع من بنى التشدد، إذ اتسم عهد الملك عبدالله بالإصلاح ومواجهة حقيقة ما تنطوي عليه المؤسسات الحكومية من نفوذ للمتشددين.
لم يطل المقام بالفيصل في الوزارة، إذ عاد أميرا لمنطقة مكة بعد عام واحد حتى الآن، لكن آثار معركته ضد التشدد مازالت باقية وشاهدة على أدواره، وقد أطلق تصريحا مدويا في وقته اتهم فيه جماعات حركية خارجة عن الدولة باختطاف التعليم وجعله حبيسا وطيعا لأجندتها الخاصة.
رجل الفكر
لا يزال الفيصل يحتفظ بلياقة وعزم يمكنانه من خوض ما تبقى له من مشاوير في خدمة الوطن وأهله، فهو يدير أو يشير لبعض المؤسسات بخبرته وتجربته وحيويته المعروفة، ولم ينسحب من أحد تلك الواجبات الوطنية أو العربية التي يؤمن بقضيتها ودورها.
إذ لا يزال ناشطا عبر مؤسسة الفكر العربي، وهي مؤسّسة أهلية دولية مستقلّة، ليس لها ارتباط بالأنظمة ولا بالانتماءات السياسية أو الحزبية أو الطائفية. ومنذ إنشائها في العام 2000 بمبادرة من الأمير خالد ذاته، وبدعم من كوكبة من أهل الفكر وأصحاب المال ورجال الأعمال الذين آمنوا برسالتها وأهدافها التنويرية، التزمت المؤسّسة بتنمية الاعتزاز بثوابت الأمّة ومبادئها وقيمها، وبتعزيز التضامن العربي والهوية العربية الجامعة، المحتضنة لغنى التنوّع والتعدّد، وذلك بنهج الحرية المسؤولة.
الأمير خالد يرأس أيضا لجنة جائزة الملك فيصل، وهي جائزة عالمية أنشأتها مؤسسة الملك فيصل الخيرية سنة 1977، وسميت باسم الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، وتمنح للعلماء بعد اختيارهم تكريما لمساهماتهم البارزة في خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، واللغة العربية والأدب، والطب والعلوم. كانت في بدايتها تغطي ثلاثة مجالات هي خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، واللغة العربية والأدب؛ وتم منح أول جائزة سنة 1979، ولاحقا أضيف لها مجالان آخران وهما الطب والعلوم.
وفي العام 2009 أُنشئ كرسي الأمير خالد الفيصل لتأصيل منهج الاعتدال السعودي في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة سعيا للإسهام في نشر ثقافة الاعتدال في المجتمع السعودي. وبعد 7 أعوام صدرت موافقة الأمير خالد على تحويل هذا الكرسي العلمي إلى مركز في جامعة الملك عبدالعزيز باسم “مركز الأمير خالد الفيصل للاعتدال”، والتي كانت بمثابة حجر الزاوية لانطلاقة عمل المركز.
وبعد عامين صدر قرار وزير التعليم السابق بالموافقة على تغيير اسمه إلى مسمى معهد الأمير خالد الفيصل للاعتدال بجامعة الملك عبدالعزيز لتكثيف وتطوير جهوده ونتاجه في تأصيل منهج الاعتدال ونبذ التطرف بكافة أشكاله.
لقد أمدته الجبهات العديدة التي خاضها حكمة وتؤدة وحدة في ملامحه لا يرققها إلا حبه للشعر وتذوقه للفن، وألهمته جبال عسير أفقا واسعا ووعيا رحبا مشرئبا للمستقبل بفأل، وهي التي قضى فيها زهرة شبابه واختلطت بشغاف قلبه حتى أنه يرددها على لسانه سهوا رغم مضي 10 سنوات على الخروج منها ولا تزال تسكنه. وإن قدّر لأحد أن يسأله عن 80 عاما قضاها في الحياة سيرد ببيت من شعره في قصيدته “المعاناة” يقول فيه “ولاني بندمان على كـل ما فـات، أخذت من حلو الزمان ورديـّه”.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق