الصحوة مشروع إصلاح اجتماعي ضاعف التكاليف على المجتمع، وأعرض عن بقية المجالات الفاعلة في العموم الاجتماعي، داهن لحماية نفسه، وانقض عندما شعر بضعف خصمه.
العرب عمر علي البدوي [نُشر في 10/04/2015، العدد: 9883، ص(8)]
كانت قريتي تبيت على طبيعة دينية تقليدية، حتى جاء شاب متدين على قدر واسع من العلم الشرعي، بعد أن ظفر بوظيفة معلم في قريتنا، ولم يبدو أن في الأمر جديدا في ظل دفعات المعلمين المتسلسلة التي تغذي مناطق المملكة المختلفة.
تزامن قدومه مع ذروة الموجة الصحوية، وحصل أن هذا الشاب كان محملا بالفكرة المؤدلجة لحركة تغيير المجتمعات، واستطاع أن يمد جسور هذا المشروع إلى حزام قرى المدينة، وحصلت قريتنا على النصيب الأكبر من تركيزه واهتمامه لظروف متضافرة.
وبدأ الشباب المتحمس ممن تربى على طبيعة دينية جادة، ممتزجا برغبة قلقة لإثبات الذات والبحث عن هوية شخصية متماسكة في الانضمام إليه والالتصاق به، خضعت الطليعة الأولى لبرنامجه الشخصي لإنتاج مطاوعة القرية، وضاعف من اهتمامه بمن يتوسم بهم النجابة والنبوغ، بادلوه الاهتمام بالاستجابة الكاملة لخطابه الجاد والمؤدلج.
خضعت الجماعة المختارة لمتتالية من الفعاليات الجماعية والفردية لصقل شخصياتهم، وتلقوا نظام توجيه شديد الاتصال بالفكرة الصحوية، واختلف مستوى الاستجابة تبعا للاستعداد الشخصي على تحمل تكاليف النمط الجديد من الاستقامة.
تحولت هذه الجماعة المختارة، بعد أن توسعت إلى قرى مجاورة ونمى عدد أفرادها، إلى جماعة ممسكة بالمشهد الاجتماعي، وانخرطت في بث ثقافتها وإحداث التغيير في المجتمع عبر وسائلها المعروفة، تماما كما حصل في بقية مناطق المملكة .
كان هناك حنين إلى الزمن القديم، رغم أن المحيط المعاصر الذي يضمهم لا ينتمي إلى هذه الفكرة، مما اضطرهم إلى الاعتزال في بيئتهم المغلقة بطبيعة صدر الإسلام كما يظنون، زاد ذلك بعد محاولتهم غير الناجحة لدفع المجتمع إلى هذه المنطقة المتوهمة من مزيج التاريخ المجيد مع الواقع المؤسف.
وفي منتصف طريق الحلم، بحث المناضلون عن السبب الذي حال دون تحقيق الحلم، ورصدوا مجموعة من الأعداء، وسددوا نيرانهم إلى مرامي العدو القريب والبعيد، وفي النهاية، لم يتحقق حلم ولم يسلم أحد.
تحولت التوبة إلى شهية درامية، فبمجرد انتقال فرد واحد إلى سلك المطاوعة كان ينتشي بذكر مغامراته ومسامراته القديمة، وربما انطوى حديثهم على بعض الحنين إلى الماضي المشبع بالمغريات والمشهيات، وربما بالغ أحدهم في استعراض إمكاناته الشيطانية القديمة إلى درجة الكذب الفاحش، وذلك لمجرد تسويق نفسه وكأنه منتصر على قوة الرغبة ببراعة إيمانه، ومنهمك في قصة التحول الكبير إلى الاستقامة الرشيدة.
ويمكن تلمّس هذا بوضوح في حجم الأخبار المتطايرة لقصص التوبة التي يقدم عليها الفنانون والمشاهير، حتى أصبحت ممارساتهم الدينية العفوية من واقع أصل تدينهم تلميحا على نية التوبة، والتزامهم بحد الضرورة من واجب المسلم تجاه دينه وربه، مقدمة لانسحابهم من واقعهم “الهابط”.
ويبدو أن احتفالهم بأبسط ملامح التوبة المحتملة للمشاهير محاولة لتعزيز شعورهم بالصوابية المطلقة، وصورة من تضخم إحساسهم الاعتزالي، ومفارقة المجتمع إلى الفئوية الجامدة، فأصبح الخروج حتى عن التزاماتهم الشكلية، خسارة لمباهج الاستقامة بوصفها تعبيرا مجاليا مغلقا.
الصحوة كانت موجة لتديين المجتمع، على أساس أن إصلاح المجتمع لبنة أولى في طريق التصحيح والسير باتجاه المجد الذي تستحقه الأمة، لأن الأمة العظيمة نتاج مجتمعاتها وأفرادها، ولذا استوجب بناء هذه المجتمعات والأفراد على أساس متين من تعاليم الدين، غير أن السؤال يتسع استفهاما حول من المسؤول عن إنتاج الشكل الاجتماعي الذي يتطابق مع رأي الدين في بناء الأفراد.
الصحوة أضافت شروطا غير أصيلة في معنى الاستقامة، أخضعت هذا المعنى لأنماطها الجامدة، وأصبح لازما على الفرد من أجل أن يفعل الخير ويقوم بالمعروف أن يلتزم، أولا، على النحو الذي سوّقته الصحوة. فلا يصح أن تتصدق على امرأة تجلس في طرف محل تجاري وأنت غارق في سماع الأغاني، ولا يكفي أن تصلي الفرض وأنت تتساهل في السنن الرواتب، وقتئذ لا ينفع معه الكف عن نميمة أو الإحسان إلى مخلوق.
هنا زرع التردد والإحباط الذي دفع الشباب إلى الإسراف في العصيان، لأنك لم توفق للاستقامة كما رزق سواك ممن اصطفاهم الله واختارهم لهدايته، وأصبح من قدرك اللازم وحظك الجاثم أن يكره الله عبادتك فيثبطك وتقعد مع القاعدين.
ويبدو أن الشيطان اتكأ على هذه الحجة التي أسلمته الشباب على وداعتهم واستقبل المتفلتين من مركب الاستقامة الصحوية الذي ضاق بهم ومجّهم في قبضة إبليس.
اليوم لا تبدو الأمور كما كانت عليه، استعاد الشباب المسلم معانيه من قبضة المفترين عليه، وحاز على الطريق السالكة إلى الله بعد أن سدها أسراب المتألبين عليه، جفت أحبار المغالين وطويت صكوكهم التي يوزعونها بأمر أفكارهم المنقبضة، أصبحت مغفرة الله واسعة، وهي كذلك مذ بسط الله هذه الأرض لولا غربال الصحوية السميك.
افترضت الصحوة هشاشة تدين المجتمع وحاجة الدين إلى استعادة مركزه في محور اختيارات المجتمع، وضعت في مقدمة قناعاتها أن المجتمع متهافت وتحيطه مخاطر التغريب، وأنه لا يقوى على مواجهة المغريات إلا بتدخل بطولي من القيمين على تدين المجتمع والحاملين لهمّ الأمة.
من هذا التصور المغالط جاءت الصحوة بأبوية مفرطة، ومارست عملية التغيير من أبراجها الفردوسية، وأخذت تلقي بإملاءاتها دون دراية كافية بالواقع، أو بإلمام مجتزأ ومبتسر له. جردت المجتمع من قدرته الكفائية لحماية قيمه وثوابته، وربما اتهمته بالتهاون والإفراط، وأخذت تدفعه بخطاب إرغامي، يحمله مسؤولية كل شيء، وأوجبت عليه أن يستجيب لشروطها.
الصحوة جاءت بمثابة موجة ارتدادية من العهد الأول لتأسيس البلاد السعودية، منذ أعلن تحالف الدولة مع الدعوة، أخذت تذكّر الناس بالمنطلقات البكر للدعوة النجدية رغم مرور الكثير من الوقت ونشوب كم زاخر من مناسبات التغيير والتحول.
الصحوة مشروع إصلاح اجتماعي غير أنه ضاعف التكاليف على عاتق المجتمع، وأعرض عن بقية المجالات الفاعلة في العموم الاجتماعي، داهن أحيانا لحماية نفسه، وانقض أحياناً عندما شعر بضعف خصمه. وعندما تمسّح ببعض المجالات الحصينة، وتداخل مع الشأن العام الذي ينفرد به الطيف السياسي تعرض للقمع والقسوة، مما دفعه لمضاعفة دوره في المجتمع وفرض سيطرته على الحلقة الأضعف، وزاد ويلات القصور في الثقافة والذهنية الاجتماعية.
كاتب سعودي
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق